هل يشرّع الشرع التطبيع؟
تتراءى للمتابعين منذ وصول أحمد الشرع إلى القصر الرئاسي في دمشق أوهام وأحلام وحقائق ممزوجة ببعضها بشأن ذلك الرجل الذي أتى من شعاب المعارك وشعثها فجلس على الأرائك الوثيرة، وانتقل من محاورة الأعداء والفرقاء بالبنادق إلى تبادل الابتسامات والضحكات معهم؛ فكأنّه لمّا قصّر لحيته وغيّر زيّه وتحول من أبي محمد الجولاني إلى أحمد الشرع غيّر كلّ شيء فأنكره من عرفه واقترب من أنكره من معرفته

أحمد الشرع ومحمود عباس في دمشق
تحوّلات شديدة في المسار والأفكار يقول بعضهم أنّها تورية ومخاتلة ويقول آخرون أنّ الرجل رمى بقناعاته القديمة في دهاليز إدلب حين طلب دمشق في محاولة لصناعة أنموذج جديد يقع على الحافة بين أنموذج طالبان في أفغانستان وأنموذج الإخوان في مصر؛ أي بين مثال للرسوخ والثبات والتحدّي وآخر للمداراة والتكيّف حدّ التماهي والتفريط، بينهما يقف على الأعراف أحمد الشرع ورفاقه، وفي السياسة رجال لا يكادون يعرفونهم بسيماهم من أثر التبديل إن أساؤوا الظن ومن أثر المداراة إن أحسنوه.
ولعلّ أكثر ما يثير الشكوك حول السبيل الذي اختاره الشرع منذ تسلّمه السلطة في علاقاته الإقليمية هو موضوع التطبيع مع الكيان الصهيوني خاصة مع تعدّد الاعتداءات وتوسّع الجيش اليهودي في قرى درعا والقنيطرة، وما قابل ذلك من صمت تارة وتنديد على استحياء تارة أخرى حتّى صار احتمال التطبيع أقرب من احتمال المواجهة بالنظر إلى سلوك القيادة السورية من ناحية، وجهود أنظمة التطبيع من ناحية ثانية، وميل الشرع نفسه نحو تلك الأنظمة أملاً في كفّ شرّها كما يقول مؤيّدوه، وتمهيدا لتطبيع العلاقات مع الصهاينة حسب زعم مناوئيه، وقد أتى استقباله لرئيس السلطة الفلسطينية مؤخّرا ليعمّق الشكوك حول ما يتمّ تحضيره في اللقاءات الرسمية وغير الرسمية.
هذا المقال ليس تقييما للشرع ولا اتّهاما له بالنكوص، إنّه مقال يقف على الأعراف كذلك، يطلّ كاتبه على حاكم دمشق من نافذة فيراه مع الثوار فيستبشر، وإذا صرف بصره تلقاء أصحاب الثورة المضادة فرآه في مجالس ابن زايد وابن سلمان ومحمود عباس يقول ربّنا لا تجعله مع القوم المطبّعين، لكنّ الأصل في السياسة سوء الظنّ ولا يستقيم حاكم إذا لم يقوّم لأن النفس بطبعها تميل إلى ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾، وإنّ آخر ما ينزع من قلوب الصالحين حبّ الرياسة كما ورد في الأثر، وليس الشرع استثناء في البشر، وإذا جمعنا قرائن الواقع إلى دروس التاريخ يكون لزامًا علينا كتابة ما ستقرأ.
بعيد اندلاع الحرب العالمية الأولى أزاح الإنجليز الخديوي عباس حلمي وعيّنوا مكانه عمّه حسين كامل خادما لهم وحاكما لمصر فأثار ذلك غضب المصريين وحاول عدد منهم تأسيس جمعية سمّوها جمعية التضامن الأخوي هدفها الإطاحة بالعميل الجديد فحاولت اغتياله وفشلت في ذلك ونجحت في اغتيال رئيس وزرائه بطرس غالي وأذاق أفرادها الإنجليز المرّ والعلقم بسلسة عمليات محكمة استنفد الاحتلال جهده للقضاء على مدبّريها ولم يفلح، وقد كان من الشباب الذين حاولوا اغتيال حسين كامل شاب ثائر شديد الحماس اسمه محمد نجيب الهلباوي، أشعل قنبلة بعقب سيجارته ورماها على موكب الحاكم العميل ثمّ فرّ ولولا أنّ تلك السيجارة دلّت عليه لسجّل اسمه في التاريخ بأحرف من نار ولهب.

بعد تحقيقات عميقة قبض على الهلباوي وأودع السجن ثم حكم عليه بالإعدام، وبعد فترة تمّ تخفيف الحكم إلى السجن المؤبّد، ومضت سنوات فأطلق سراحه بعد أن استطاع ضابط بريطاني اسمه إنغرام وشريكه المصري سليم زكي إقناع الهلباوي بأنّه عبثا يحاول المضيّ في طريق حاد عنه رفاقه فصاروا وزراء ونوّابًا في البرلمان، فلعبت الجنيهات والشيطان وغدر الخلاّن وتخلّي رفاق الأمس بعقل الهلباوي فاستحال عميلا يشي بالعاملين في حقل المقاومة حتّى قضى الإنجليزعلى تلك البذرة نهائيًا، وتفاصيل القصة طويلة فيها من الدروس والعبر ما ينفع العاملين، وينبّه الغافلين، ولعلّ أبرز ما تفيدنا به أنّ الإنسان لا يبرأ بماضيه الثّوري، وألاّ براءة مؤكّدة قبل الموت. وفي ذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مستنّا فليستنّ بمن قد مات، فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة". وهذا كذلك مدخل بعد المدخل الأوّل لأقول أنّ الاعتقاد بالطهارة الثورية للأفراد من دلائل الطفولة السياسية، وأنّ تلمّس المعاذير للحكّام يغريهم بالزّلل مهما خلصت نيّاتهم، والواجب أن تنفر من كلّ شعب طائفة تبصّر الناس وتحذّر المسؤولين وتضغط عليهم وتقوّمهم حتى لا يحيدوا عن سواء السبيل، ولعلّنا اليوم في ظلّ الاستضعاف واستمراء العمالة وإيلاف الخذلان في حاجة إلى التقيّد بنصيحة الأموي عبد الملك بن مروان "لا طمأنية قبل الخبرة، فإنّ الطمأنينة قبل الخبرة ضدّ الحزم"، وإذا كان النّاس قد خبروا الشرع قائدا لفصيل جهادي فإنّهم لم يَخبروه رئيسا للدّولة، وما أدرانا أن يكون الشرع بعد الخروج من سجون أمريكا عبد الغني برادر الأفغاني أو الهلباوي المصري! ومن يضمن لمن احتفى بابن زايد والملك عبد الله وعباس أن يسير على خطاهم لاسيما وأنّ القرائن توحي بأنّ وراء أكمة اللقاءات ما وراءها.
إنّ من يقرأ قائمة المطالب الثمانية التي أملتها الإدارة الأمريكية على القيادة السورية يتيقّن أنّ البريطانيين والأمريكيين يعملون على توليد عميل جديد في سوريا من رحم الثورة نفسها؛ فما معنى أن يطلب ترمب من الشرع أن يحظر جميع نشاطات الفصائل الفلسطينية ويرحّل أعضاءها "لتهدئة المخاوف الإسرائلية" مثلما ورد بالحرف الوقح، وأن يطهّر حكومته من المتشدّدين؛ أي من كل الثوريين والإسلاميين الذين شاركوه الطريق ليستبدلهم بالأقلّيات، وأن يسمح للطيران الأمريكي باستباحة الأجواء السورية متى شاء وأن يضرب من أراد في الوقت الذي يرغب، وغيرها من الشروط المعلومة التي لو أضفناها لما يروج حول عروض تلقاها الشرع لاستقبال المهجّرين من غزة في مخيّمات الشمال السوري، والتّنازل عن الجولان، وإنشاء قواعد لحلف الناتو، وتفكيك الحزب الكردستاني لوجدنا أنّ الشرع يقف بين طريقين لا ثالث لهما؛ إمّا أن ينتفض كرّة واحدة في وجه أمريكا ويستعين عليها بقوى الشّرق المعادية لها مثل الصين وروسيا ويلعب على تناقضات المنظومة الجديدة الآخذة في التشكّل، أو يرتمي في حضنها ليكون رقما في عداد الأنظمة العميلة.
ومن يرجع إلى الشروط الأمريكية سيجدها مرتبطة أساسا برفع العقوبات الاقتصادية التي أقرّها الغرب في الأصل ضد نظام بشار الأسد، فانظر كيف تحوّلت صوب النظام الذي أسقط الأسد، وتلك العقوبات مهما كان لرفعها من فوائد على الاقتصاد السوري إلاّ أنّها لا تساوي شيئا مقابل حجم التنازلات المطلوبة. كما أنّ القبول بالأخيرة لن يضمن للسوريين حياة الرّفاه من جهة، ولن يجعلهم في منأى عن العدوان الصهيوني حتّى لو سلّموا قادة المقاومة وطردوا المقاتلين الأجانب وسمحوا لأمريكا بقصف من لا ترضى عنهم لأنّ جوهر القضية يتعلّق أساسا بالمشروع الصهيوني في المنطقة وتوفير الظروف الملائمة لتوسّع اليهود على حساب الأراضي العربية، وإن كان الشّرع يحسب أنّ التنازلات ستنفعه أمام طموحات نتنياهو فعليه أن يعلم أنّ المواجهة بين سوريا والكيان الصهيوني قادمة به أو من دونه وألاّ أحد سيقف في وجه القدر وضرورة الجغرافيا وحتمية الصراع العقدي.
إنّ ما يثير الشكوك أكثر حول تماهي الشّرع مع مشروع التطبيع وقبول الطرح الأمريكي ليس فقط اقترابه المبالغ فيه من نظام ابن زايد في الإمارات والملك عبد الله في الأردن وابن سلمان في السعودية وسكوته عن الاعتداءات الصهيونية المتكرّرة واحتلال جزء من الأراضي السورية فقط، بل أنّ استقباله لرئيس سلطة أوسلو محمود عبّاس يطرح أكثر من سؤال حول ماهية المناقشات التي دارت بين الإثنين، فأيّ تأثير يملك عباس في الإقليم ليتمّ استقباله في دمشق؟ وما الرسالة التي يحملها من لا يملك قرار مغادرة قصره في رام الله للرئيس الشرع؟ إذا فهمنا دوافع اللقاء برؤساء الدول الإقليمية فإنّنا لن نفهم أبدا أسباب استقبال شخص عمله الأساسي تسهيل مهمّة الاحتلال الصهيوني والتنسيق الأمني مع تل أبيب، خاصة إذا كان الاجتماع بين الرجلين فاصلا بين اجتماع في أبو ظبي مع عرّاب التطبيع ولقاء ثالث في دمشق مع عضو الكونغرس الأمريكي.
يبدو أنّ مشكلة أحمد الشرع تتعدّى المهادنة لتصفير المشاكل مع دول الجوار وطمأنة الغرب إلى ما يشبه الهوس باكتساب الشرعية الدولية، فالرجل اختار بنفسه إنهاء منطق الثورة والاستغناء عن شرعيتها في وقت مبكّر ثمّ وجد نفسه مجرّدا من الشرعية الدستورية بحكم المانع الانتخابي فراح يخبط خبط عشواء لاكتساب الشرعية الدولية التي من الواضح أنّها لن تتأتّى له حتى يقدّم لأمريكا والكيان الصهيوني أكثر مما قدّم غيره من الرؤساء والملوك إذا لم يلغ الفكرة تماما ويأخذ دربًا آخر يقطع مع توسّل الشرعية والرضا الأجنبي ويعيد إلى سوريا زخمها الثوري وتأثيرها الحضاري من جديد.
كأنّ الشرع باستقبال صاحب صرخة "احمونا يا عالم" يريد أن يرفع صوته بالنبرة نفسها: "اقبلونا يا عالم"، ولن يقبله هؤلاء الذين يدعوهم ولن ينسوا ماضيه الجهادي ولو نسيه هو نفسه وسيتركون صدى صوته يتردّد في المحافل الدولية دون شرعية كما لم يوفّروا الحماية لعبّاس وأشباهه، وحين ينتهون من اليمن وإيران سيعودون إلى تنفيذ المشروع الأصلي ويتخلّصون من الشرع وأمثاله بعد أن يكون قد تخلّص ممّن يعادون التقارب مع الغرب، وهو مصير لا يتمنّاه غير الموتورين وأنصار الاستبداد المتأسّفين على سقوط النظام الأسدي.
اليوم، يقع على عاتق الشرع أن يختار بين السبيلين ويستبرئ لدينه ووطنه قبل فوات الأوان كي لا يكون ما يخشاه الناس حقّا، فقد كثرت الأقاويل وتعدّدت القرائن وبلغت القلوب الحناجر خشية على الثورة السورية من الانتكاس وعلى قادتها من الارتكاس، ويكفي الناس نكسة الإخوان السلميين في القاهرة كي لا يتحمّلوا نكسة الجهاديين في دمشق، وأمّا إن كان الشرع سيخدع الأعداء جميعا من دون صدام ولا استسلام فسيكون فلتة الزمان.
هذا قول المستوحش المتشكّك قد قرأته، أمّا التعلّل ففي قول أبي العتاهية:
و لَعلَّ ما تَخشاهُ لَيسَ بِكائنٍ ولعلَّ ما تَرجوهُ سَوفَ يَكونُ
ولعلَّ ما هَوَّنتَ لَيس بِهَيّنٍ ولعلَّ ما شدّدتَ سَوفَ يَهونُ
24 تعليقات
لخضر شتوح
١٩ أبريل ٢٠٢٥جلال
١٩ أبريل ٢٠٢٥مرابطي بلقيس
١٩ أبريل ٢٠٢٥عبد الرحمان السعدي
١٩ أبريل ٢٠٢٥مختار دباشي
١٩ أبريل ٢٠٢٥محمود زوبيري
١٩ أبريل ٢٠٢٥مصطفى بوقبرين
١٩ أبريل ٢٠٢٥عزالدين فنيط
١٩ أبريل ٢٠٢٥مراد منصوري
١٩ أبريل ٢٠٢٥أمير
١٩ أبريل ٢٠٢٥عبد الغفور
١٩ أبريل ٢٠٢٥Wahid Dridi
١٩ أبريل ٢٠٢٥نورالدين
١٩ أبريل ٢٠٢٥عبدالملك
٢٠ أبريل ٢٠٢٥hakim saadi
٢٠ أبريل ٢٠٢٥هشام
٢٠ أبريل ٢٠٢٥حسام الدين
٢١ أبريل ٢٠٢٥زكرياء بن عوالي
٢١ أبريل ٢٠٢٥zidan zaki
٢١ أبريل ٢٠٢٥كروش
٢١ أبريل ٢٠٢٥Nor din
٢٢ أبريل ٢٠٢٥نصيرة سعيد
٢٣ أبريل ٢٠٢٥سعيد
٢٤ أبريل ٢٠٢٥Ammar
٢٤ أبريل ٢٠٢٥