سوريا الجديدة والكيان الصهيوني: المواجهة الحتمية

يقرر التاريخ أن المحتلين واليهود خاصة إذا دخلوا بلدة لن يغادروها، وإذا احتلّوا أرضاً استوطنوها، وهم مثل حلفائهم البريطانيين يدخلون خصومهم في دوّامة المفاوضات حتّى يثبّتوا أقدامهم فيما اغتصبوا ويصبح وجودهم أمراً واقعا، فعلوا ذلك في فلسطين منذ أوّل يوم وطئت أقدامهم أرضها وقرارات التقسيم شاهدة، وكرّروا ذلك في سيناء وغزّة والجولان، ولم يسجّل التاريخ أنّ اليهود خرجوا من أرض آثر أصحابها مسار المفاوضات على خوض حروب التحرير أبدًا


الجولان المحتل

وقد كان جلاؤهم من سيناء وغزة بالحديد والنّار وكان مكوثهم في الجولان 41 سنة ونيّفاً بسبب استسلام حافظ الأسد للضغوط ورغبته في البقاء على الكرسي مقابل التسليم بسلطة الصهاينة على هضبة الجولان وظلّ النظام البائد يرفع شعار المقاومة دون أن يرمي اليهود بحجر، وظلّ اليهود يسوحون في الأرض المحتلّة يبنون المستوطنات وينشئون الثكنات ويضربون دمشق وحمص وحلب متى أرادوا والنظام العلوي يردّد: "أوسعتهم سبّاً وأودوا بالإبل". وقد أودوا بالجولان وجبل الشيخ ويوشكون أن يودوا بالقنيطرة وحوران، وإن وجدوا الطريق سالكة ستكون الشام منتهى الأحلام، وسينتشر جندهم من الأراضي الفسلطينية المحتلّة إلى نهر الفرات مرورا بدرعا والسويداء والتنف فيما يسمّيه منظّروهم ممرّ داود، تؤزهم إلى ذلك أساطير التوراة وتعاليم التلمود، وتساعدهم الأقليات الدرزية والكردية كما ساعد البشمركة والميليشيات الشيعية الأمريكيين في العراق، ومثلما يفعل الدروز في فلسطين، وكما فعل جيش لحد في لبنان، وكما ستفعل كل الأقليات في أرض العرب حين يداهمها عدو أجنبي، ومن لا ينتبه إلى خطر العنصر الداخلي الفعّال لا يستحقّ أن يقود الأغلبية مهما كان تاريخه ناصعا وأيّا كانت الشرعية التي يستند عليها، وقد علّمتنا أحداث العقدين الأخيرين أنّ أسباب الضعف في الداخل أقوى من ضعفنا أمام القوى الأجنبية، فإن كان جاسوس واحد يعدل جيشا كاملاً كما قرر سان تزو، فكيف بخزان كامل من الجواسيس!

في سوريا الجديدة أبدى أحمد الشرع الذي نصّب رئيسا انتقاليا يوم 29  يناير الماضي وكلّ المتحدّثين باسم القيادة مرونة شديدة فيما يخصّ التوغّل الصهيوني في جنوب سوريا، كان ذلك مبرّرا عند أنصارهم بضعف الدّولة الجديدة ورغبتها في تصفير المشاكل مع دول الجوار بما فيها الكيان الصهيوني، لكنّ الجماعة بالغوا في المبررات حتى أن بعض تصريحاتهم صارت تشبه التبرير للعدو أكثر مما تعبر عن الرغبة في مواجهته، وإلا فما معنى أن يقول الشرع أن الكيان الصهيوني كان يرغب في دخول الأراضي السورية بداعي وجود فصائل تابعة لإيران وقد انتهت حجتها الآن، فهل يعني ذلك أنّ وجود تلك الفصائل حجة كافية لنتنياهو كي يجتاح بلاد الشام؟ ماذا لو ادّعت تل أبيب أن هناك فصيلا جديدا شكلته إيران في الجنوب؟ هل سيصبح توغلها من باب الحق في الدفاع عن نفسها في نظر الحكومة الجديدة؟

إن مثل هذه التصريحات الخاطئة والانهزامية لن تجلب للسوريين الأمن كما يعتقد الشرع ورفاقه، كما أنّ طمأنة الغربيين بشأن أمن الكيان الصهيوني ودول الجوار لن تمنح الشرع تلك الشرعية التي ترك البحث عنها في الداخل وراح يركض خلفها في الخارج، وإنما تحفزهم على قضم المزيد من الأراضي وفرض واقع جديد على الأرض لن تستطيع دمشق تغييره لاحقاً، فالعدوّ يتشمم رائحة الخوف مثل الكلب إن استشعرها لن يفوت فرصة الانقضاض على الفريسة الضعيفة التي ما انفكّت تحدّث العالم عن الحروب التي أنهكتها، والجراح التي آلمتها، والظاهر أنّنا أمام تعقيدات جديدة لا توجد مؤشرات على استعداد القيادة السورية الجديدة على التعامل معها على الوجه المطلوب لاسيما وأن مسألة اكتساب الشرعية الدولية تسيطر على ذهن القيادة الجديدة التي بدل فرض الشرعية الثورية والاستمرار في الخطاب الراديكالي آثرت رفع شعار انتهاء الثورة وبداية بناء الدولة، ولما كانت الشرعية الدولية مشروطة بالتنازلات الكبرى عادت من جديد لترقيع شرعية أخرى تعتمد على استرضاء الأطراف الداخلية من خلال مؤتمر إعلان انتصار الثورة بعد 55 يوما من تحرير دمشق، وهاهي اليوم تقف بين تحدّيين؛ تحدي بناء شرعية شبه ثورية بالاعتماد على فصائل الداخل وتحدي استجلاب شرعية دولية سيكون أمن الكيان الصهيوني عمادها، وستكون العقوبات الاقتصادية والمساعدات الإنسانية عكازها، وقد لاحظنا كيف تهش واشنطن بعصاها على القيادة الجديدة، تارة تعدها برفع اسمها من قوائم الإرهاب ورفع العقوبات الاقتصادية، وتارة تربطها بإثبات حسن النوايا، والأخيرة تعني في القاموس الأمريكي التسليم لليهود بالسيطرة على ما قضموه إلى الأبد والتوافق مع الأكراد ومحاربة جيوب داعش ودمج "جيش التنف" في الجيش السوري وتمكين الأقليات وغيرها من الشروط المعروفة.

وبالعودة إلى التوغل الصهيوني في جنوب سوريا يأتي الهجوم على جنود الاحتلال في محيط مدينة طرنجة بريف القنيطرة بعد يوم من تنصيب الشرع ليضعه أمام حتمية اتخاذ موقف صارم من الوجود الصهيوني في الأراضي السورية، فإن واصل صمته فيما يشبه خيار "الصبر الاستراتيجي" الذي اعتمدته إيران حتى صار نكتة ستتآكل شرعيته لدى الشعب السوري تدريجيا وعند جماهير الأمة العربية التي ستقارن نظامه لا محالة بنظام الأسد بخصوص قضية الجولان، وإن قرّر المواجهة؛ وهي حتمية في كلّ الأحوال؛ سيكون عليه أن يستعيد ثوريته من جديد ليقضي على تمرّد قسد وبقايا جيش النظام ويفتح جبهة ضد الاحتلال، وهو ما لا تريده القيادة السورية الحالية بأيّ حال بالنظر إلى أسباب كثيرة عدّدها السوريون كثيرا منذ بداية العدوان على مخازن السلاح واجتياح جبل الشيخ وريف القنيطرة. فهل من خيار ثالث؟

مبدئياً، يظهر من بيان الجهات التي نفذت الهجوم في القنيطرة أنّها خارج سيطرة الإدارة الجديدة، فالتنظيم الذي يسمّي نفسه "جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا" يشبه بخطابه وشعاره حزب الله اللبناني، وقد أشار مركز ألما للدراسات العبري في تقرير نشره يوم 14 يناير الماضي إلى أن التنظيم الجديد يتبع للحزب القومي الاجتماعي السوري ويستمد الدعم والتسليح من إيران، علما أن الحزب يساري علماني ينشط في سوريا ولبنان وقد كان طرفا في تحالف 8 آذار مع حزب الله، وإن ثبت ذلك فهو مؤشر على أنّ شرعية المقاومة سيتمّ افتكاكها من السنة مرة أخرى ما لم تتدارك الإدارة الجديدة الأمور عاجلا وتستعيد زمام المبادرة. عمليا، سيتسبب وجود جيب مقاوم للوجود الصهيوني في الجنوب السوري بإحراج القيادة الجديدة داخليا وخارجيا، ويمنح فلول النظام فرصة العودة من بوابة المقاومة، ولن يسع أي طرف سني نزع شرعية المقاومة عن أي فصيل، وحينذاك لن يلوم الشرع إلا نفسه لأنه ترك القضية في أيدي أعدائه ولن ينفع البكاء على اللبن المسكوب. فما العمل إذن؟

بالإضافة إلى الفصيل المذكور، انتشر يوم الفاتح من فبراير بيان تعلن فيه جهة تسمي نفسها "المقاومة الشعبية السورية" تبنيها لعملية القنيطرة ولم تفصح فيه عن انتمائها لأي كيان معروف، ولعلها هدية السماء للشرع ورفاقه كي يسارعوا إلى استغلال الفرصة وتشكيل فصيل مسلح يناجز الصهاينة دون أن يتورّطوا بدخول المواجهة مباشرة، ولابأس أن تكون لهؤلاء هوية أخرى وقيادة مختلفة تعلن عداءها للشرع واستقلاليتها عنه إعلامياً خاصة أنّ الحرب على غزة قد تعود في أي لحظة بالنظر إلى معطيات الواقع، وسيقع على القيادة الجديدة واجب النصرة في حال انهيار الهدنة كما هو مرجّح، وإن لم تفعل ستنضم إلى قائمة أنظمة التطبيع شاءت ذلك أم أبت، وكأنك يا بوزيد ما غزيت!

إن ملخص ما أريد قوله في هذا السياق هو أن القيادة السورية الجديدة محكومة بحتمية المواجهة مع الكيان الصهيوني وإلا ستفقد شرعيتها ومبررات وجودها باعتبارها أهم مخرجات الربيع العربي وأنموذجا يفترض به أن يكون مختلفا عن الأنظمة الموجودة، وعليها أن تختار بين فتح جبهة مباشرة ضد العدو الذي يحتل جزء من أراضيها أو تؤسس تنظيما مسلحا يخوض الحرب بالوكالة عنها عاجلا قبل أن تسيطر تنظيمات محور الممانعة على المشهد من جديد، والخيار الثاني هو الأسلم والأكثر جدوى في السياق الدولي الحالي بالنسبة إلى إدارة الشرع، ومن المعلوم أن القضية الفلسطينية تضفي على من يناصرها شرعية كبرى سواء كان صادقاً أو دعيّاً، وأولى بالقيادة الجديدة أن تستثمر في رأسمالها الثوري خدمة لسوريا وفلسطين حتى لا تكون نسخة عن السابقين.

 

7 تعليقات
مختار دباشي
  ٢ فبراير ٢٠٢٥
سيواجه إسرائيل بالضغط الدولي والأمم المتحدة، بحسب تصريحات أحمد الشرع في اعتقادي حتى في الأطروحة الثانية في إنشاء جهة تواجه الكيان بالنيابة، ستتخذها إسرائيل ذريعة مهما كان نوع الفصيل. الحل الوحيد في رأيي بناء الجبهة الداخلية بعودة النازحين ، وبناء جيش قوي مدعوم من تركيا (عتادا) وقطر (ماليا) وبعدها لكل حدث حديث
↪ الرد
بولريال عبد الرحمان
  ٢ فبراير ٢٠٢٥
عنصر الوقت في غاية الأهمية وتسابق الأحداث يزيد من أهمية الحسم لا الاعتماد على الضغط الدولي والامم المتحدة.
↪ الرد
رضوان آل عثمان
  ٢ فبراير ٢٠٢٥
الحل هو انشاء فصيل مسلح غير مرتبط ظاهريا بالإدارة السورية الجديدة. الصهاينة لن يتوقفوا عند المناطق التي إحتلوها.
↪ الرد
محمد الامين
  ٢ فبراير ٢٠٢٥
لدي اعتقاد و اراه يترسخ مع مرور الاحداث في سوريا ان احمد الشرع و كل المحيطين به رغم حداثة عهدهم بالحكم و اخطائهم الاعلامية التي لا يكاد يلتفت اليها، ان هؤلاء يمارسون سياسة حذرة للغاية من ناحية التصريحات، فتسمية معركة الفتح برد العدوان كان اساسه خديعة ظن ازلام النظام السابق ان الامر لا يعد ان يكون مجرد اشتباكات لكن نية المحررين ذلك الوقت كانت ابعد من اسقاط بعض نقاط التماس مع العدو و قد فتح الله عليهم. كذلك كانت سياستهم في التعامل مع فلول النظام و الاقلية العلوية فشعار مرحلة ما بعد التحرير التي اراد من خلالها الشرع استتباب الامن كان اذهبوا فانتم الطلقاء اظهر من خلالها على الاقل اعلاميا تسامحا كبيرا لكن الواقع و الذي لم يصرح به هو ان الطلقاء يراد بهم اولئك الذين لم يتورطوا في الدماء و الارواح و الاغراض و لم يلبث إلا قليلا حتى بدات عمليات التمشيط و اعتقال رموز النظام السابق و طالت عملياته الساحل السوري الذي تهيمن عليه المليشيات العلوية . لذا لا اظن ان تصريحاته توافق دائما فهمنا لها، و لا اظنه بالخب.
↪ الرد
messaoudiboualem12@gmail.com
٢٦ أبريل ٢٠٢٥
موفق
خالد
  ٣ فبراير ٢٠٢٥
وضع صعب.. الشرع يقود شبه دوله باقتصاد منهار وجيش بتسليح محلي لا يذكر. والاشنع من هذا ان الاطراف الداخليه (الاكراد-الدروز-العلويين-النصارى- فصائل الجنوب- جماعة النتف) كلهم بالضد منه ولا يؤتمن جانبهم. المشكله ان مجازفه مثل هذي يا بتصنع من الشرع بطل قومي اسطوري او بتنهي سيطرة العرب السنه لسنوات قادمه...
↪ الرد
مسعودي بوعلام
٢٦ أبريل ٢٠٢٥
المشهد في غابة التعقيد
خليل مداني
  ٦ فبراير ٢٠٢٥
المشكل أن الشرع خطابه كان كله مطمئن للغرب، ولتركيا نفوذ كبير عليه فهو لم يبادر بالهجوم على قوات الأسد حتى أخذ الإذن من تركيا، ثم أن تاريخ الشرع سيجعله لا محالة معاديا للفصائل المسلحة لانه يعلم انه لا يمكنه توقع تصرفات الفصيل... فالشرع نفسه بدأ مستقلا ثم. انظم للقاعدة ثم تنظيم الدولة والنصرة ثم القاعدة ثم عاد مستقلا فخيار تشكيل فصيل مسلح غير مرجح نظرا لتاريخ الرجل. مشكل الثوار العرب انهم لايجيدون لعب السياسة ومواجهة الدولة العميقة. لمن شاهد مقابلة الشرع في تلفزون سوريا وكيف عامله المذيعان بقلة احترام وكانو يقاطعون كلامه ويسألونه اسئلة غريبة كأنهم CNN او وكالة اعلام غربية سيعلم ان الرجل ربما غير مجهز لخوض مثل هته المعارك. ان شاء الله نكون مخطئين وندعو الله له بالتوفيق فما التوفيق الا من عنده.
↪ الرد
أبو أحمد اسكنددر
  ٤ أبريل ٢٠٢٥
حتى ولو افترضنا ان أحمد الشرع واركان حكمه لهم "نوايا" حسنة فيما يخص كل مكونات المجتمع من تعدد عرقي وعقدي لكن انهيار الاقتصاد والجروح التى لازالت مفتوحة ستكون اقوى بسبب عامل الوقت وكذلك الوضع الاقليمي والدولي وخاصة ان الجيران كلهم في وضعية إستراتيجية حرجة هذا من جيهة وهناك وضع قليل من تكلم فيه وهو ان كل القوى المسلحة السابقة والمعارضة النظام المنهار قد غيرت من داعميها ومموايها فمثلا : على ارض سوريا الآن وصفة لقتال لا تنتهي و "مليشيات" تتلقى الاملاءات من كل هؤلاء المتصادمين ، مايسمى سابقا جيش الحر يديره "الكيان" و ما يسمى تحرير الشام يدار من قبل تركيا و قطر ، مليشيات من القوقاز وتركستان تديرها المانيا (وهذا قليل من تكلم عنه)... الخوذ البيضاء ذراع ... بريطانيا ( وحتى هذا من نادر من أشار اليه، مدربين اعتى التدريبات مخابارتيا ويدعمهم الكيان لوجيستيا وأشرس الجماعات من الايغور والاوزبك والشيشان الذين ظاهريا فقط او اعلاميا كأنهم (اتراك او تركمان ) ولكنها في الميدان مدعومون لوجستيا من الكيان ملاحظة .. اعرف ان الكثرين سيثيرهم هذا ومن الممكن انهم سيأشرون انني اتكلم فيما لا اعرف او انني من دداعمي نظام الاجرام ودوائر أمنه الفاسدة والمجرمة ولواحقهم من ارباب الكابتجون والروافض ..المهم ربنا يصلح حال سوريا ارضا وشعبا ويهيء لهم البطانة الصالحة والله من وراء القصد
↪ الرد
اترك تعليق