انتلجنسيا مزيّفة في انتظار النخبة المثقفة

في كلّ منعرج تثار فيه القضايا الجدلية في البلاد المبتلاة بالأفكار الواردة تبرز فئة من المواطنين المتعالين على عامّة الناس لينظّروا على بقيّة الخلق من أبراج شاهقة، ليس استعلاء المفكرّين في سعيهم إلى الحفاظ على رفعة العلم وسموّ الأفكار، بل علوّ الاستكبار ومحاولة ممارسة الأستاذية لمجرّد أنّ هؤلاء الأدعياء يسكنون شاشات التلفزيون ويحتلّون صفحات الجرائد بسبب قربهم من المركز أو ممّن يتحكّم في المركز


الانتلجنسيا المزيفة صوت الأقلية الحاكمة

لقد عشنا طيلة الأسابيع الأخيرة موجة جديدة من استعلاء الانتلجنسيا على عامة أفراد المجتمع بعد توقيف المؤرخ الجزائري محمد الأمين بلغيث، وصار ضروريا تشريح سلوك هذه الفئة وفهم دوافعها وتحرّكاتها وأهدافها.

دعونا نتفق بداية أنّي أستعمل كلمة أنتلجنسيا هنا عمدا لتوصيف تلك الفئة لسبب واضح، هو أنّ مولد الكلمة روسي ومرتبط بدرجة كبيرة بتاريخ روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي، ولأنّه تطوّر في تلك البيئة التي يتمسّح بها أولئك الذين اختاروا أن يكونوا أشخاصا بلا جذور وأناسا في الهواء بتعبير غريغوي بومرانتس، أي هؤلاء الذين يسارعون إلى لفّ الوشاح الأحمر على أعناقهم وطقطقة قناني الخمر في جلساتهم الخاصة ويلتقطون الصّور بالقرب من رفوف الكتب التي يبدو أنّهم لم يقرؤوها  ثم يخرجون علينا ببعض الشعارات المكرّرة عن الحرّية والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من لوازم تلك الباقة التي تباع مجملة غير قابلة للتجزئة كما تباع علب مستحضرات التجميل. كما أنّ تطفّلهم على اليسار والشيوعية سبب آخر يجعل من لفظ الانتلجنسيا أليق بهم من مصطلح المثقّفين، ولأنّهم يتطفّلون على اليسار ويدّعون انتماءهم إلى الطّبقة المثقفة يصبح من البديهي أن يردف الوصف بالزّيف، حيث أنّنا نقف في مواجهة طائفة لا هي يسارية ولا يمينية، لا تحمل قيم الليبرالية إلاّ في حدودها الشهوانية والبهيمية، ولا تدافع عن القيم الشيوعية إلاّ حين يتعلّق الموضوع بالاستثمار في مآسي المهمّشين لابتزاز السلطة الحاكمة في بعض الأحيان وتبرير سلوكاتها في أغلبها، حالها كحال الخفاش إذا قابل الفئران أراهم أسنانه ليحسبوه فأرا، وإذا اختلط بالطّيور فرد جناحيه ليحسبوه منهم.

ومن المثير للاهتمام أن مصطلحي "intellectuals" و"intelligentsia"  لا يُستخدمان كمفاهيم متقابلة في اللغة الإنجليزية. بل يُستخدم الثاني كمصطلح جماعي يشير إلى الطبقة المتعلمة والمستنيرة، التي يزداد دورها أهمية في مجتمع المعلومات الحديث، كما يقول ميخائيل إيبشتاين، لكنه ارتبط تاريخيا بالثقافة واللغة الروسيتين، حتّى أنّ الرّوس المتأخرين وصلوا مع مطلع الألفية إلى المطالبة بإلغاء المصطلح من اللغة الروسية ووضع عبارة "عفا عليها الزّمن" أمام المصطلح مثلما كتبت الصحافية مارينا كولوليوفا في مقال نشرته سنة 2008 وفقا لما أورده إيبشتاين في مقال بديع بعنوان "الأنتلجنسيا، والمثقفون، واستعمال الذكاء الاجتماعي"، انتقد فيه وهو الروسي الأمريكي الدعوة إلى حذف المصطلح بعبارة قاسية يبدو أنّها تنطبق على الانتلجنسيا المزيّفة في بلادنا العربية وفي الجزائر خصوصا أكثر مما تنطبق على الروس. قال: "لقد كان للمثقفين الروس دومًا نقيصة واضحة، وهي افتقارهم إلى احترام الذات، ونزعة إلى التدمير الذاتي: إما باسم الذوبان في الشعب الأسطوري، أو بهدف التماهي مع الغرب الأسطوري"، أليس ذلك بالضبط ما يحدث لدينا؟ انظر إلى أفراد الانتلجنسيا المزيفة في أوقات الثورات والمظاهرات الاحتجاجية كيف تتماهى مع المطالب الشعبية وتلجأ إلى صناعة صورة أسطورية للجماهير تساعدها في ركوب الموجة للوصول إلى أهدافها الرخيصة، ثم لاحظ كيف تخاطب نفس الجماهير بعد زوال فورتها من منصّة الأستاذية لتحدّثها عن تقدّم الغرب وتخلّف الشرق وضرورات التخلّص من الثقافة الشعبية لتحقيق الوثبة واللحاق بالدول الغربية العظمى. فهل يوجد افتقار إلى احترام الذات وسفالة أكثر من هذه السفالة؟ أسوأ من كل ما سلف أنّ تلك الفئة تعتبر نفسها حين تخاطب العامة أو تتحرّك جنوبا في اتّجاه المناطق البعيدة عن الأضواء تؤدّي مهمّة حضارية تشبه تماما الفكرة الاستعمارية التي روّجها المحتلّ حين ادّعى أنّه ساهم في تمدين الشعوب المتخلّفة، ويمكن للمتابع الحصيف أن يلحظ الاستصغار والمنّ في لغة الكَتَبة والمسترزقين بالتزلّف سواء في الرّطانة أو المفردات.

في السياق الروسي لا تميل الانتلجنسيا إلى الفردانية والانفصال عن الجماهير كما يعتقد الناس الذين ألفوا القول بأنّها طبقة تعيش في أبراج عاجية، إنّما هي جماعة من الناس الذين يفكرون بطريقة شمولية وعامة، وشغوفون بتعميم اللحظات الخاصة من الحياة اليومية، وتحويلها إلى مفاهيم مجردة تصبح بدورها قواعد ناظمة للحياة الاجتماعية وفقا لإيبشتاين دائما، وهكذا قامت الانتلجنسيا الروسية في القرن التاسع عشر بتعميم نظرية داروين في التطور، ودمجها بالاقتصاد السياسي الماركسي، وحوّلت النظريتين إلى دليل للعمل. وظهرت تدريجيًا شعارات مثل: "الحقيقة للجميع"، "الفن للجميع"، "الملكية للجميع"، وهو ما أفرز منظومة شمولية استبدادية تقوم على موقف معارض في حقيقته لتلك الشعارات البرّاقة؛ الرأي للواحد والقرار للواحد والأمر كلّه للواحد، وليس بالضرورة أن يكون الواحد هنا فردا فقد يكون منظومة أو  حزبا أو كيانا سرّيا غير مرئي يحاول إعادة صياغة المفاهيم وبناء المجتمع تبعا لإيديولوجيته.

أمّا في السياق الجزائري فإنّ الانتلجنسيا المزيّفة تعاني من الانفصال عن الجماهير من جهة، وتحاول فرض رؤيتها الضيّقة للمجتمع من جهة أخرى، وما يزيدها تيها أنّها لا تشبه نظيرتها الروسية في أصالة الفكرة وملاءمتها للظرف التاريخي الذي نشأت فيه، لهذا السبب تبدو دعاوى الانتلجنسيا المزيّفة نشازا، وتحظى بقدر كبير من السخرية لدى الطبقات الشعبية، ولولا أنّ تلك الايديولوجية الطفيلية مسنودة بالمال والسّلاح لأصبح مروّجوها مداسا لأقدام الكادحين ممّن يتحسّرون على تضييع أموال الدولة في طبع كتب وجرائد الانتلجنسيا المزيّفة. لقد كان الروس يطبعون وينشرون إنتاجهم من أموالهم الخاصة في سبيل الأفكار التي آمنوا بها قبل أن يتحوّلوا إلى أدوات تستعملهم السلطة لصياغة خطابها وتبرير سياساتها، أمّا أنصاف المتعلّمين الذين أخذوا شيئا من كلّ شيء فقد ولدوا وكبروا في حجر السلطة، واعتاشوا مثل الكائنات الطفيلية على ما تتبرّع به لهم، ولم يذكر التاريخ أنّ واحدا من هؤلاء استطاع أن يقف في مواجهة الظلم والاستبداد، فهم دائما يقفون في صفّ من يظنّونه أقوى، وإن مالت كفّة الميزان في جهة أخرى قفزوا فورا إلى الضفّة المقابلة وتركوا ما خوّلهم الطرف السابق وراء ظهورهم.

إننا في الحقيقة أمام طغيان خطاب محدد لأفراد مؤدلجين بما يتناسب مع رغبات النظام السياسي الحاكم، ولا يعني ذلك غياب المثقفين بشكل كامل، من المؤكّد أنّهم موجودون يراقبون الوضع بحسرة لكنّهم عاجزون عن رفع أصواتهم، ومبعدون جبرا أو مبتعدون خيارا عن دوائر التأثير ووسائل الإعلام الجماهيري الثقيلة، وتلك هي المأساة التي يبدو أنّنا بدأنا نجني ثمارها المرّة على جميع المستويات، ومن يتابع الترهيب الفكري الذي تنتهجه الانتلجنسيا المزيفة ضدّ الثقافة الشعبية وكلّ المدافعين عنها يرى بوضوح أنّ هذه الأقلّية المريضة إيديولوجيا لا تحتمل تعدّد الآراء ولو كانت تحمل وجهات نظر علمية، وتعمل على شنّ حملات إعلامية منظمة ضدّ أيّ صوت لا يتّفق مع توجّهاتها.

لقد عايشنا جميعا هجوم كتائب الترهيب الفكري على الأستاذ المؤرّخ محمد الأمين بلغيث بعد اعتقاله، ورأينا كيف طفق أفراد منتمون إلى تيّار إيديولوجي واحد إلى تسفيه طرحه والانتقاص من شخصه وتحوّلهم من مدافعين عن الحرّيات حسب زعمهم إلى دعاة لتكميم الأفواه والتضييق على الحرّية الأكاديمية وحرّية التعبير في معزوفة واحدة تثبت للمرة الألف أنّ الأنتلجنسيا المزيّفة ليست بعيدة فحسب عن القيم الديمقراطية التي صدّعت رؤوسنا بها بل أنّها متجرّدة من القيم الأخلاقية والفروسية التي تمنع أهل المروءة من الهجوم على شخص ليس في وسعه أن يردّ على الأكاذيب والافتراءات، ولم نر من بينهم من يدعو إلى نقل الحوار إلى مدرجات الجامعة ومراكز البحوث كما يجدر بالمثقّفين أن يفعلوا. وإن كانت الشجاعة واستقلال الرأي أهمّ صفات المثقّف فإنّ الجبن والاستخذاء أبرز سمات أنتلجنسيا الزيف والصراخ.

في انتظار النخبة 

يختلف المثقف عن "الإيديولوجي" الذي يمثل عادة صوت جماعة معينة سواء كانت طبقة، أو حزبا، أو طائفة، فالإيديولوجي ينطق بلسان الآخرين، ويمثل مصالحهم الضيقة، أما المثقف، فبوسعه أن يتجاوز كل الهويات الاجتماعية والسياسية والثقافية. وفق منظور إبشتاين، المثقف هو من يتجاوز الانحيازات، ويوسّع أفق العقل ولا يضيقه، ويقاوم الخضوع لأي سلطة: لا سلطة الشعب، ولا الحزب، ولا الدولة، ولا حتى سلطة العقل نفسه في صورته المتعالية. معنى ذلك أنّ المثقّف فرد يربك السلطة بتعبير إدوارد سعيد، ويمثّل سلطة معنوية متحرّرة من القيود في مواجهة أخطاء أصحاب القرار، وهو بطبعه يتسامى على الأطر السائدة ويقفز على القوالب الجاهزة لينطق الحقيقة ويتمثّل القيم العليا ولا يمثّل فئة ولا مجموعة سياسية ولا أقلّية إثنية أو دينية على العكس تماما من أفراد الانتلجنسيا.

والأصل في المثقف أن يكون قادرا على خرق القوانين السائدة وليس نقدها فقط، فهو ينزع إلى النقد البنيوي لكلّ ما هو مؤسسي ومألوف فيأتي على الأفكار التي يراها خاطئة أو ناقصة من القواعد من دون أن يرضخ لإكراهات المتعارف عليه، فالفرق بين الطبقة المثقفة وبين الانتلجنسيا يتركّز أساسا في المسؤولية الأخلاقية التي تتحمّلها الأولى ولا تبالي بها الفئة الثانية، ولعلّ ذلك هو السبب الذي يجعلنا نرى كثيرا من المؤدلجين المتحيّزين في مقابل ندرة المثقّفين خاصة في البلدان التي مازالت ترتدي عقول أبنائها عباءة الحزب الواحد والفكر الأوحد ولو تخلّصت نظريا من الأنظمة الأحادية وانتقلت إلى ما يسمّى بديمقراطية الواجهة، حيث مازال الأفراد يعانون من الشمولية السياسية ومحاولات فرض هوية واحدة عليهم عنوة في غياب صفوة مثقّفة قادرة على مواجهة التنميط والقولبة بشجاعة، فضلا عن انعدام نخبة سياسية تملك الجرأة على زعزعة أركان الاستبداد المطعّم بالإيديولوجيات المريضة والذهنيات الضيّقة.

في النصف الأول من القرن العشرين استثار تماهي المثقّفين مع السياسات القومية وتحالفهم مع أصحاب التوجهات العنصرية الكاتب الفرنسي جوليان بندا فنشر كتابا بعنوان "خيانة المثقّفين" قرّع فيه الذين اختاروا خدمة الدّنيويين، يعني رجال السياسة، لأنّهم يقودون بتلك المواقف شعوب أوروبا نحو الصدام بسبب مساهمتهم في تنامي المشاعر القومية، وقد  صدّقت الأحداث نبوءاته فيما بعد ودخلت أوروبا حربا مدمّرة، ونحن اليوم نلمس تصاعد ظاهرة الأنتلجنسيا المؤيّدة للاستبداد والساعية إلى تأييده بكلّ الأشكال والوسائل، وليس هناك ما يمنع من تكرّر المأساة إذا استمرّ الخطاب على هذا النّحو من الجبرية المتسلحة بوسائل الإكراه من طرف فئة توشك أن تنصب محاكم تفتيش جديدة لكلّ من يرفض سرديتها المجتزأة في قضايا التاريخ والهوية والسياسة.

في سبيل تعريفه للمثقّف يرى بندا أنّه  "شخص متفرّد قادر على قول كلمة الحقّ في مواجهة السلطة، فصيح اللسان، شجاع إلى درجة لا تعقل، ثائر لا يرى أنّ ثمّة سلطة دنيوية أقوى من أن ينتقدها أو يوجّه لها اللّوم"، وتلك الخصائص هي ما يمنح المثقفين سلطة أخلاقية ومكانة تسمو بهم على غيرهم من المنتفعين من أصحاب الشهادات الأكاديمية العليا وموظّفي الدولة والوجهاء من أهل المال والسياسة، أما حين تصبح الثقافة مصدرا للتربّح وتبرير سلوك الحكومات بله بتحريضها على القمع فإنّنا نصبح في مواجهة طبقة حقيرة من المتعلّمين السطحيين المستعدّين لقول وفعل أيّ شيء يفتح عقل المستبدّ على المزيد من أدوات الظلم، ويمهّد له الطريق لإضفاء أخلاقية زائفة على أفعاله.

وإذا شئنا أن نكون أكثر إنصافا علينا أن نعترف أنّ واقعنا يعجّ بالانتلجنسيا المزيفة ويفتقد إلى أشخاص تنطبق عليهم الصفات التي ساقها جوليان بندا وميخائيل إيبشتاين وإدوارد سعيد وغيرهم من المهتمّين بدور المثقف ودراسات الصفوة بشكل عام، والواجب على الأجيال الجديدة أن تصنع ثقافتها بنفسها بعيدا عن تجّار الشعارات لتستطيع مجابهة كتائب الترهيب الفكري المؤّيدة بالسلطة والدعاية وأطنان الأكاذيب. وعلى من يريد أن يتبوأ تلك المكانة ويحمل على كاهله عبء الثقافة أن يتذكّر هذه الكلمات للسيد إيبشتاين:

"أن تكون فيزيائيًا، أو لغويًا، أو طبيبًا، أو محاميًا بارعًا لا يعني بالضرورة أنك مثقف. فالمثقف يحمل رسالة، ويتبنى منظومة من القيم الإبداعية،و العامة، والأخلاقية. منطلقًا من مهنته، يوجّه نظره إلى قضايا المجتمع والإنسانية بأكملها. إنه يرى نفسه ممثلًا لجميع الكائنات العاقلة، لأن الإنسان في جوهره هو كائن مفكر ومتكلّم".

-

من يريد المزيد من التفاصيل أقترح عليه مجموعة من الكتب المفيدة في هذا الموضوع:
 كتاب جوليان بندا Treason of the Intellectuals من هنا والنسخة الأصلية الفرنسية من هنا

كتاب إدوارد سعيد Representations of the Intellectual من هنا 

كتاب ميخائيل إيبشتاين Ideas Against Ideocracy من هنا

 

 

12 تعليقات
رضا يعلاوي
  ٢٢ مايو ٢٠٢٥
عميق جدا 🤩 حبذا لو تضيف مقالا يتناول النخبة السياسة
↪ الرد
Sid Hocine
  ٢٢ مايو ٢٠٢٥
كلامك في الصميم اخي فيصل
↪ الرد
F
  ٢٢ مايو ٢٠٢٥
أمر محير أقلية تتحكم في أغلبية وتمارس عليها الإرهاب الديني والفكري والاجتماعي والإقتصادي والسؤال الذي يطرح نفسه هذه الاغلبية مغيبة ولا تعي شيئا مما يخطط لها وهي تغط في سبات عميق ؟؟؟؟
↪ الرد
زارب عبد النور
  ٢٢ مايو ٢٠٢٥
لم أعاصر سنوات التسعينات واعيا، لكن لاحظت وجود تسجيلات من تلك الفترة لملتقيات متلفزة بين سياسيين ومثقفين، أما اليوم في عصر التواصل فحتى التجار ولجوا عالم البودكاست لإفادة غيرهم ونشر تجاربهم، فقط في السياسة غابت النخبة الحقيقية واعتزلت كل شيء يأسا أو قهرا، وهنا كان الأستاذ بلغيث مقداما واستثنائيا وسجل بودكاست ومن حينها أعتقد أنه صار مستهدفا لأنه كان ببساطة سيحطم جهد عقود باقتحامه الوسائل العصرية، قناعتي أن السلطة الحالية تعمل بمبدأ بسيط هو حفظ التوازن وفق المثل الشعبي (ماتجوع الذيب ما تبكي الراعي)، فالأستاذ سيخرج في مناسبة ثورية كعيد الاستقلال مثلا بعفو رئاسي، ليكون خروجه منة من السلطة لا انتصارا لطرحه. أما عن الثقافة والجامعة فقد عمدت السلطة إلى تقديم صورة سيئة عن طلب العلم باحتضان الجامعة لكل عتل سفيه بل وتفاوضه كشريك اجتماعي في إطار منظمات تطالب بحصتها من الدجاج، هنا يرى الطالب الوافد نمطا مشوها يرسخ في الأذهان إضافة إلى تركيز التكوين في حشو المعارف النظرية لا إلى التحليل والنقد وتناول الشأن العام وفعاليات المجتمع، هنا نحن أمام حالة شلل وإعاقة تامة للأفراد وطاقاتهم وتضليلهم عن مفهوم العلم بحد ذاته خلال ارتيادهم الجامعة وكأنها مركز للتدجين والتطويع،هذا ما يجعل المرء يتخرج وهو يظن نفسه مثقفا من النخبة لكنه في الواقع لايحسن التحليل ولا التفاعل ولا الاعتراض أو النقد، سيكون فقط منبطحا متسلقا توافق رؤيته أهواء السلطة، وبذلك يكون مثقفا مزيفا.
↪ الرد
أحمد ابراهيم
  ٢٢ مايو ٢٠٢٥
هذا الموضوع ليس وليد اللحظة، بل هو قديم متجذر في نسيج المجتمعات البشرية عبر العصور، ولا يُعتبر ظاهرة محصورة في دولة أو ثقافة بعينها. فمع اختلاف التفاصيل والمسميات تبقى الجوهر واحداً، والمضامين متطابقة، والأدوار ذات النزعة الخائنة لا تتغير. ففي العالم الإسلامي، كما في غيره، ارتبطت هذه الآفة تاريخياً بما يُعرف بـ"علماء السوء" أو "علماء البلاط"، أولئك الذين يشبهون سحرة فرعون في تزيينهم للباطل وتقديمهم الشرعنة الزائفة للظلم. هؤلاء لا يملكون في حقيقتهم مهارة حقيقية تُؤهلهم للقيام بأي دور نافع، ولذلك يتشبثون بهذه الوظيفة الدنيئة، لأنها السبيل الوحيد لضمان بقائهم. فهم لا يستطيعون الاستغناء عنها، كما لا تستطيع هي الاستغناء عنهم، فتجدهم دوماً في صف كل متغلب وقوي، شرط أن يحافظ على امتيازاتهم ومواقعهم. وحتى أولئك الذين ينتمون إلى فئات اجتماعية كانت مضطهدة في الماضي، نجد أن من يلتحقون بهذا النسق هم أولئك الذين استبطنوا القيم الفاسدة، واختاروا طريق التزلف والانتهازية، معتقدين أن أداء هذه "الأدوار الرخيصة" هو الممر الوحيد لنيل الحظوة عند أصحاب النفوذ. ففي سياقنا المحلي، لو أردنا تحليل أدوار "زبناء السلطة"، لوجدنا أن جلَّ ما يقدمونه هو: التطبيل الأعمى، والاعتداء اللفظي على الخصوم، وإثارة الصراعات التافهة. فهم يتحركون كأدوات في يد النظام، ينفذون أجندات مسمومة تحت غطاء "الانتماء" المزيف. ولو لم يلجأ هؤلاء إلى أساليب الدس والافتراء، وتضخيم الإنجازات الوهمية، وتصوير أبسط الواجبات كأنها معجزات، لما وجدوا موطئ قدم لهم في هذه المعادلة. بالمقابل، هناك فئة أخرى أكثر دهاءً ومهارة، وهم أولئك الذين يتقنون فن إدارة التوازنات، ويتمتعون بمرونة عالية تمكنهم من استغلال كل مستجد لصالحهم. هؤلاء يمتلكون خبرات متراكمة، وفهماً عميقاً لنقاط ضعف السلطة، فيتحركون كـ"صيادين للفرص"، ينتهزون اللحظات الحرجة لتعظيم مكاسبهم. ومن بينهم الفاسدون، والمراقبون، والانتهازيون، والوصوليون، وهم في مجملهم يشكلون ما يُعرف بـ"المخزن" – تلك الشبكة المعقدة من المصالح التي تُدير اللعبة من خلف الستار. في الجزائر، هذه الآلية ليست جديدة، بل هي متوارثة عبر الأجيال. فمثلاً، نجد أن "الكراغلة" (فئة اجتماعية تاريخية) كانت دائماً ما تبرع في اصطياد الفرص من رحم الفوضى، معتمدة على المرونة والمناورة بدلاً من المواجهة. وقد استمر هذا النهج حتى بعد الثورة التحريرية، حيث اضطرت جبهة التحرير الوطني إلى التعامل مع هذه الفئة، لا سيما المتعلمين منهم في المدارس الفرنسية، لملء الفراغ الإداري والسياسي. فهؤلاء هم من تسللوا إلى مفاصل الدولة بعد الاستقلال، وسيطروا على الإعلام والدبلوماسية والإدارة، مستفيدين من خبراتهم المكتسبة في كنف المستعمر. أما الأصوات النزيهة، فمكانها إما السجون، أو المنافي القسرية، أو الصمت الإجباري. ففي بيئة موبوءة كهذه، تصبح الكتابة الشريفة جريمة، والرأي الصادق تهمة، بينما تزدهر الأقلام المأجورة التي لا همَّ لها سوى تلميع الصورة وتزييف الوعي. وهكذا تتحول الساحة إلى مسرح للدجالين، حيث يُكافأ المنافقون، ويُعاقب المخلصون، في حلقة مفرغة من الفساد والانحدار.
↪ الرد
محمد طبال
  ٢٢ مايو ٢٠٢٥
مقال رائع ، بوركت
↪ الرد
مختار دباشي
  ٢٢ مايو ٢٠٢٥
كلهم يفتقدون القدرة على التفكير المستقل وإنتاج أفكار جديدة. لو نريد أن نلخصهم في كلمة أو كلمتين ، هم أقرب (للمرضى النفسيين).
↪ الرد
كريم
  ٢٢ مايو ٢٠٢٥
بارك الله فيك
↪ الرد
حسام الدين
  ٢٢ مايو ٢٠٢٥
مقال رائع، يحمل توصيفا دقيقا لطغمة فاسدة عميلة للمصالح الإستعمارية.
↪ الرد
أبوسجود
  ٢٣ مايو ٢٠٢٥
دوما قلمك ينير الكثير ..بوركت أخي العزيز
↪ الرد
سعاد طه
  ٢٣ مايو ٢٠٢٥
قرأت المقال مرة واحدة فقط برغم أنه يستحق أكثر من قراءة بما يحمل من قوة .بارك الله فيك استاذ .
↪ الرد
عبدالباسط فرحات
  ٢٥ مايو ٢٠٢٥
أن تكون فيزيائيا أو لغويا أو طبيبا أو محاميا بارعا لايعني بالضرورة أنك مثقف. إقتباس معبر جدا. بارك الله فيك أخي فيصل
↪ الرد
اترك تعليق