مطبّعون مع وقف التنفيذ (02)
بعد الاستقلال كانت الجزائر من الدول التي تقيم معسكرات تدريب للفصائل الفلسطينية وأرسلت جيشها للقتال ضد الصهاينة في حربي 1967 و1973، وحافظت طيلة الفترة التي تلت الحربين على موقف منسجم مع مخرجات قمة الخرطوم 1967 المعروفة باللاءات الثلاث: لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض، فكانت بعد خروج الرئيس المصري أنور السادات عن الإجماع العربي وتوجهه للتطبيع في اتفاقية كامب ديفيد في 1978 من مؤسسي جبهة الصمود والتصدّي

الرئيس الجزائري بوتفليقة ورئيس الوزراء الصهيوني إيهود باراك
رفقة ليبيا وسوريا والعراق وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي) ومنظمة التحرير الفسلطينية، ولم تتراجع الدولة الجزائرية عن موقفها حتى في أوقات ضعفها فكان الإعلان عن تأسيس الدولة الفلسطينية من العاصمة الجزائر سنة 1988 في وضع دولي حرج، وحتى في ظلّ سنوات التسعينات لم يصدر عن الحكومات الجزائرية المتعاقبة ما يفيد باستعدادها للتطبيع مع العدوّ الصهيوني على الرغم من توقيع ياسر عرفات على اتفاقية أوسلو التي تم بموجبها التنازل عن 78% من أرض فلسطين التاريخية سنة 1993 وسقوط الأردن في وادي عربة بعد سنة من ذلك، ولم يظهر من يقول بضرورة التطبيع علنا من الشخصيات البارزة حتى نهاية التسعينات، كان ذلك الشخص هو خالد نزار وزير الدفاع الأسبق.
بوتفليقة ونزار: يد تصافح وقلم يطبّع
في سنة 1999 نشر نزار بعد تقاعده مذكراته باللغة الفرنسية ثم ترجمت إلى اللغة العربية، تحدث في فصل منها عن مشاركة الجزائر في حرب 1973 وعن تجربته وموقفه الشخصي من العلاقة مع الكيان الصهيوني الذي يذكره بلفظ "دولة إسرائيل" عكس المتعارف عليه في الخطاب السياسي الجزائري، هنا أنقل حرفياً مقتطفًا من تلك المذكرات يتطابق مع ما ورد في النص الأصلي باللغة الفرنسية. يقول نزار:
"في الوقت الذي كنا نحارب فيه من أجل فلسطين، لم تكن لي أية عداوة إزاء الجندي الاسرائيلي، وعلى كل فقد كنا جنودا يؤدون واجبهم. واليوم لم تعد عبارة بومدين الشهيرة "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة" عبارة صالحة حسب رأيي، انطلاقا من إبرام الفلسطينيين أنفسهم والعرب عموما اتفاقيات مع الدولة الإسرائيلية أو هم بصدد التباحث معها... في الوقت الحالي (وقت كتابة مذكراته) يستثمر الإسرائيليون في غزة، ويوجد في الكينيست نواب فلسطينيون، كما أن المواطنين الفلسطينيين يتوجهون يوميا إلى إسرائيل للعمل هناك، هذه حقائق، وعلى الجزائر اليوم أن تراجع موقفها آخذة بعين الاعتبار مصالحها، ومصالحها فقط، تبقى النقطة الوحيدة ذات الأهمية الرئيسية هي القدس مهد السلام الذي يتوجب إيجاد حل لها مهما كلف ذلك من ثمن" (ص 95-96).
الكلمات أعلاه واضحة ولا تحتاج إلى تفسير، وحين نتحدث عن الجنرال خالد نزار فنحن لا نتحدث عن شخصية هامشية في النظام الجزائري بل عن أحد أعمدته ورجاله الأقوياء طيلة فترة التسعينات وبعدها، بل أنه في الحقيقة ليس مجرد عسكري ووزير دفاع سابق، إنه بالنسبة لعدد كبير من رجال الدولة العميقة أحد الآباء الروحيين، وما قرره في هذه السطور عقيدة وقناعات راسخة لا يستطيعون إنكارها، وهؤلاء يمثلون تيّارا قويا في أجهزة السلطة ليس من الصواب تجاهل وجودهم ودورهم المستقبلي في صناعة السياسة الخارجية للبلاد، ولا يخفى على أحد أن من يتبنى هذه الرؤية سيسارع إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني دون أن يجد في لك حرجا أخلاقياً أو مانعا عقديا أو حتى ضررا على المصلحة الوطنية للدولة، وأخطر ما في الموضوع أنّ المتحدّث ضابط عسكري يضعنا أمام سؤال كبير: كم يوجد داخل السلطة والجيش من يتبنّون طرح نزار؟ بغضّ النظر عن الجواب الذي لا يمكن لأحد الجزم به، علينا أن نؤكّد أنّ الجيش الذي يردّد منتسبوه كلّ صباح بفضل مؤسّسيه الأوائل من المجاهدين، ورجالاته الوطنيين: "بنو العرب، تقدموا وقدّموا سلاحكم نحو اليهود" يجب أن تبقى عقيدته العسكرية نقيّة معادية للمدّ الصهيوني ولو كره نزّار وزملاؤه في دفعة لاكوست وأتباعهم في كل زمان ومكان.
في نفس السنة كذلك وضع الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة أول خطوة في طريق التقارب الخجول مع الكيان الصهيوني، وكان أول مسؤول جزائري يصافح نظيره من الصهاينة ويحدّثه علناً، كان ذلك في جنازة ملك المغرب الحسن الثاني حيث صافح الرئيسُ الأسبق إيهود باراك رئيس وزراء الكيان ودار بينهما حوار قصير أكّد فيه باراك بأنهم عازمون على تغيير مستقبل الشرق الأوسط، فخاطبه بوتفليقة بعبارة: "إذا أردتم أيّ مساعدة نحن جاهزون" ليرد عليه باراك: "أعدك أننا سنحتاج". وقد سببت تلك الحادثة حرجا شديدا لبوتفليقة الذي برّرها بأنها لم تكن مبرمجة وأنه تفاجأ بباراك يمد يده إليه ويتحدّث معه، لكنّ المصافحة التاريخية المخزية شجعت عددا من الصحافيين على تشكيل وفد لزيارة الكيان الصهيوني وتمّ ذلك سنة 2000 وأثار موجة من الانتقادات في حينها، ثمّ أصبح بعض هؤلاء مدراء مؤسسات إعلامية منهم أسماء ماتزال في المشهد الإعلامي إلى حدّ كتابة هذه الأسطر.
وفي سنة 2002 أسس شخص يسمى محمد برطالي جمعية سماها "جمعية الصداقة مع إسرائيل" وتقدم بطلب للترخيص لجمعيته حسبما أوردت تقارير إخبارية تعود إلى تلك الفترة، ونُقل عنه تصريح يقول فيه:" إننا نعتقد بأن للرئيس بوتفليقة مواقف إيجابية من إسرائيل ولمسنا هذا في تثمينه للدور الثقافي الذي لعبه اليهود في قسنطينة واستقباله لوفود يهودية خلال زيارته لكل من أوروبا وأميركا ودعوته للفنان الفرنسي اليهودي المولود بالجزائر أنريكو ماسياس لزيارة الجزائر"، لكن الجمعية لم تتأسس رسميا بفضل الله ولم تتنجّس أرض الشهداء بأقدام ماسياس، وهذا الماسياس صهيوني حاقد على الثورة الجزائرية لأنّ المجاهدين قتلوا صهره المسمى ريمون حين اكتشفوا تعاونه مع الفرنسيين وتورّطه في قتل عدد من المجاهدين في قسنطينة. وفي الألعاب الأولمبية سنة 2004 بأثينا، نازل المصارع الجزائري عمر مريجة منافسا صهيونيا لأول مرة في تاريخ الجزائر، وكانت تلك أيضا سابقة أثارت استياء الجزائريين وبرّرها رئيس اللجنة الأولمبية الجزائرية الأسبق مصطفى بيراف بأنّ المصارع انتصر (جاب حقه كما قال)، وذلك كاف حسبه لتبرير التطبيع الرياضي، لكن أبناء الجزائر البررة من الرياضيين استمروا في مقاطعة المنافسين الصهاينة في مختلف المنافسات الدولية.
في نفس السنة كذلك، عيّن بوتفليقة واحدة من أشهر الشخصيات النسوية الجزائرية التي زارت الكيان الصهيوني بين 1995 و1996 وزيرة للاتصال والثقافة، كانت تلك المرأة هي خليدة مسعودي أو خليدة تومي المناضلة السابقة في حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (RCD) ذو الايديولوجية البربرية والاتجاه اللائكي المحض، ومن عجائب بوتفليقة أن تلك الوزيرة المطبّعة عمّرت 12 سنة كاملة في نظام يرفع شعار "مع فلسطين ظالمة أو مظلومة". وفي جويلية من سنة 2014، أعرب محمد عيسى وزير الشؤون الدينية والأوقاف الأسبق عن نيته إعادة فتح المعابد اليهودية المغلقة مبرّرا ذلك بحرية المعتقد المنصوص عليها دستوريا، مرة أخرى أثار ذلك سخط الرأي العام الجزائري فتراجع الوزير عن مسعاه وقال أن ليس لديه جدول محدد لإعادة فتح هذه المعابد، لافتًا إلى أن ممثّلي الجالية اليهودية أنفسهم غير متحمسين لإعادة فتح معابدهم خوفًا من تعرضها لاعتداءات.
في السياق نفسه، ظلّ فرحات مهني رئيس حركة فصل منطقة القبائل (Mak) يزور تل أبيب منذ 2002 دوريا، ولم يتم اتخاذ أي إجراء ضدّه برضا تام من الدولة العميقة، حتى اضطرت الحكومة إلى تصنيف حركته بصفتها منظمة إرهابية سنة 2020، وطيلة تلك الفترة كان من يتحدّث عنه بسوء يوصف بالعنصرية وبث خطاب الكراهية، بل أنّ الإعلام الموجّه وبعض قادة الأحزاب ذات الإيديولوجية البربرية كانوا يدافعون عنه علنا في الفضائيات والصحف دون أن يجدوا من يمنعهم من ذلك، ولم يجدوا أيّ حرج في المنافحة عن شخص ينسّق علنا مع قادة الكيان الصهيوني إلى اللحظة التي تغيّرت موازين القوة نسبيًا داخل النظام وأصبح الدفاع العلني عن التنظيم فعلاً يعاقب عليه القانون، وهذا يعني أنّ أولئك القوم لا مشكلة لديهم في دعم الحركات الانفصالية ولا التعاون مع العدوّ الصهيوني، وفي أيّ لحظة يمكن أن يعودوا لما نُهوا عنه مادام الأمر متعلّقا بالنصوص القانونية لا بالقناعات والمبادئ.
هذه تفاصيل نسردها لنذكر القراء بأنّ القرارات الصعبة لا تستند دائما إلى عقيدة الصدمة بل تأتي تدريجياً خاصة في المجتمعات التي يبدي أفرادها مناعة فكرية ضد بعض القضايا، وبتلك الطريقة يتمّ حقنهم على مدى زمني طويل كي يتقبّلوا ما كانوا يرفضونه، ويبدو أن هناك تيارا داخل النظام الجزائري يهمّه أن يقود الجزائريين صوب مستنقع التطبيع تحت مبرّرات مختلفة، بدأ بالسماح لبعض الشخصيات بزيارة الكيان الصهيوني وبثّ بالونات الاختبار إعلاميا وسينتهي إلى المطالبة بالتطبيع كما نظّر لذلك الجنرال نزار وأشباهه.
أدب التطبيع
بالموازاة مع موجة التطبيع في العالم العربي، انتشرت في السنوات الأخيرة كتابات لروائيين جزائريين تتناول موضوع اليهود بلغة غير معهودة، تخاطب العاطفة وتقفز على حقائق التاريخ حينا وتزوّرها في أحيان كثيرة كما فعل أمين الزاوي في روايته "آخر يهود تمنطيط" سنة 2012 لمّا راح يزوّر الحقائق متبنّيا سردية المظلومية لتبرير أفعال اليهود في منطقة توات مقابل تجريم الشيخ عبد الكريم المغيلي ضمنيا في أحداث مضت عليها 6 قرون من الزمن واضعا جرائم الطائفة اليهودية في حق السكان المسلمين خلف أذنه، متغافلا عمّا أوردته كتب التاريخ لينقل للقراء صورة رومانسية عن اليهودي المستضعف والمظلوم، ويبثّ في عقول النشء هرطقات التعايش السلمي مع الجلّادين وأحفادهم إذا ما تقرّر ذات يوم فتح الأبواب لهم لزيارة الجزائر، لكنّ رواية الزاوي التي خطّها بالفرنسية لم تكفه لنيل الحظوة لدى اللوبي الصهيوني في باريس، فلا هو فاز بجائزة الغونكور ولا حظي بتقدير الجمهور.
أما الحبيب السائح صاحب رواية "أنا وحاييم" فقد برع في اجتزاء تاريخ يهود الجزائر زمن الثورة التحريرية ليصنع لنا يهودياً خيالياً بقي أن يطلب له منحة من وزارة المجاهدين فقط، ذلك هو حاييم بن ميمون بطل الرواية، الصيدلي الذي كانت عقاقيره علاجاً للمجاهدين، العبراني الذي ولد وكبر ومات في الجزائر ورفض أن يغادرها تعلّقًا بأرضها وكأنّ السائح لم يسح في المكتبات ولم يطالع الوثائق التي تؤكد هجرة عشرات الآلاف من اليهود إلى فلسطين المحتلة، وتثبت رحيل مئات الآلاف مع الفرنسيين غداة الاستقلال، لكن ما نفعل مع كتّاب يتبنّون سردية تنافح عن اليهود وتحنّ إلى وجود أحفاد بكري بوشناق في أرضنا!
إنّ الحديث عن أدباء التطبيع يجرّنا إلى ذكر الكاتب المسجون منذ أشهر في الجزائر، ذلك الذي كان إطارا كبيرا في وزارة الصناعة الجزائرية يصول ويجول تحت رعاية رجال الدولة العميقة دون أن يعترض عليه أحد، وقد أوصلته جولاته سنة 2012 إلى عاصمة الكيان الصهيوني، وظلّ يدخل إلى الجزائر ويخرج منها كما يفعل أيّ مواطن عادي حتى قبل أن يحصل على الجنسية الفرنسية. لقد كان بوعلام صنصال، الطفل المدلّل للوبي الصهيوني ظاهرة تستحقّ التأمّل، داعية تطبيع يتحرّك في دولة تعلن قيادتها رفض التطبيع ولا يلقى أيّ مضايقات وكأنّ رسالة التطبيع السامية تحميه من كلّ المخاطر حتى وقع في المحظور لدى النظام فتم توقيفه وسجنه، ولا يمكننا توقّع نهاية قضيّته الآن، فقد تعوّدنا على المفاجآت مع الرئيس تبون، ورأينا كيف أنّ السجين المتّهم بالتخابر يكرّم من الرئيس نفسه، وكيف يعود الجنرال الفارّ بعد الحكم عليه غيابياً بالسجن 15 سنة في طائرة رئاسية.
في تلك الفترة كذلك بثت قناة الشروق الفضائية في 2018 فيلما وثائقيا يتناول موضوع يهود الجزائر عشية "يوم الأرض" في فلسطين، وبالتزامن مع مسيرات العودة ضمن معزوفة موحّدة اكتشف أصحابها فجأة أنّ هذه الجزائر عاش على ظهرها يهود وينبغي إعادة فتح النقاش حول وجودهم دون غيرهم من الطوائف والأعراق، وهل على الأرض ما يستحقّ الحديث أكثر من اليهود! في نظر فئة قليلة من الصحافيين والكتّاب لا شيء يدرّ المال ويجلب الانتباه ورضا الغربيين أكثر من التضامن مع بني إسرائيل، ولو كان ذلك على حساب الحقائق والمصلحة الوطنية.
في فترة طوفان الأقصى والمذابح الصهيونية على مرأى من العالم خرج الروائي وضابط المخابرات السابق محمد مولسهول المعروف باسم ياسمينا خضرا بمنشور طويل في مواقع التواصل الاجتماعي يساوي فيه بين ما فعلته المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر ورد فعل جيش الاحتلال الصهيوني، واصفا من يفرح بما قامت به حركة حماس بأنّه لا يستحق أن يكون إنسانًا متماهياً تماما مع قائد الجيش اليهودي الذي وصف أهل غزة بالحيوانات، تشابهت قلوبهم وألسنتهم. زعم ياسمينا خضرا أن "حماس قامت بذبح المدنيين الإسرائيليين بلا رحمة، والقضاء على عائلات إسرائيلية، دون سابق إنذار أو ضبط للنفس"، ولولا أن اسمه محمّد لحسبت وأنت تطالع كلماته أنّ الكاتب يحمل اسم كوهين أو ليفي من شدّة تساوق المنشور مع الرواية الصهيونية، فقد فاق في ذلك حتى السردية الغربية التي تراجع بعض أصحابها عن افتراءاتهم.
ولم يتخلّف زميله المفرنس كمال داود عن ركب المتمسّحين بالكيان الصهيوني إذ كتب نصا اعتذاريا تحت عنوان "رسالة لإسرائيلي مجهول" في مجلّة لوبوان الفرنسية، ذكر فيه أنه تربى على كراهية "الإسرائيلي" لكنه بذل مجهودا ليفهمه، قائلا:"إنّنا لا نفهم في بلادنا غضبك من العيش بعد قرون من محاولات الإبادة ولا نفهم شيئًا من معاناتك القديمة أو الثقل المروع للأرض التي تم استعادتها أخيرًا. ولا نفهم أنّك في حربك تريد الدفاع عن نفسك ضد الموت المطلق، واختفاء أحبائك نهائيًا، سواء كانوا أحياء أو أمواتًا"، يقصد بنون الجماعة لفيف التطبيع المتربّص بالجزائر من تلك الفئة المستلبة ذات الهوية الجزائرية واللسان الفرنسي والقلب العبري.
أما خاتمة أدب التطبيع فقد كانت مع دعيّة تسمى هادية بن ساحلي، لم يمنعها أصلها الجزائري من نشر كتاب بالفرنسية بعنوان "الجزائر اليهودية"، حاولت جهات لا يمكن الجزم بهويتها تنظيم جلسة للبيع بالتوقيع لكتابها شهر أكتوبر 2024 في العاصمة وتيزي وزو ثم تمّ إلغاء الجلسة في آخر لحظة بعد أن انتفض الرأي العام ضدّ الكتاب وصاحبته التي استعانت بمجنّدة صهيونية سابقة لتكتب لها مقدّمة مؤلّفها وكأنّ العالم خلا من الكتّاب والعناوين فلم تجد الكاتبة غير ذلك العنوان وتلك المقاتلة في جيش الاحتلال للترويج لمنتجها القميء. ومازال هؤلاء يكتبون ومازال سواد الناس يقاومون الأفكار الدخيلة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
الجزائر ومبادرة الاستسلام العربية
تشكل مبادرة السلام العربية التي أقرّتها الأنظمة الرسمية في قمة الجامعة العربية التي انعقدت ببيروت في مارس 2002 تحوّلا كبيرا في الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية، فالمبادرة التي قدّمها ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز وصادقت عليها الجزائر أسقطت لاءات الخرطوم وشعارات جبهة الصمود والتصدّي في الماء، إذ جاء في نص بيان القمة مطالبة الكيان الصهيوني بـ: "قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو/حزيران 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية" مقابل "اعتبار النزاع العربي-الإسرائيلي منتهيا، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة، وإنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل". ولا داعي للتأكيد هنا على أنّ المبادرة إعلان استسلام شامل للكيان الصهيوني وقبول بالأمر الواقع، وهي وثيقة عار لا تشرّف أيّ مواطن عربي يحتفظ بشيء من النخوة والكرامة فضلا عن أنّها وثيقة تنازل رسمي عن 78% من أراضي فلسطين التاريخية بما فيها القدس الشريف ، حيث يؤكّد البيان على أنّ العاصمة ستكون القدس الشرقية وليست القدس كلّها، ومن مخازي هذا العصر أن يضطرّ المرء إلى شرح هذه التفاصيل للأجيال العربية، ومن نكد الحياة الدّنيا توضيح الواضحات وبيان خيانة الأنظمة الرسمية لفلسطين بموجب مبادرة قدّمتها طواعية، والأدهى أنّ اليهود هم من رفضوها وضربوا بها وجوه أولئك الحكام، فسارع بعضهم إلى التطبيع مقابل اللاّشيء فماتت مبادراتهم الاستسلامية ولم تمت مخازيهم.
لقد وافق النظام الجزائري بقيادة الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة على المبادرة، وصار الاعتراف بالكيان الصهيوني وتطبيع العلاقات معه مسألة مشروطة بإقامة الدولة الفلسطينية على ربع أرض فلسطين، وهنا أصل المصيبة التي يحاول بعضهم تبريرها. وعلى الرغم من ذلك لم يجرؤ نظام بوتفليقة على التعبير عن استعداده لتطبيع العلاقات في الخطاب الرسمي، وظلّ وصف الكيان بالاحتلال ساريا لم يتغيّر، لذلك فإنّ تصريح الرئيس تبون الأخير لجريدة "لوبينيون" الفرنسية باستعمال لفظ "إسرائيل" مجرّدا من وصف الاحتلال، وإعرابه عن استعداد الجزائر للتطبيع يمثّل سابقة ينبغي الوقوف عندها والتحذير منها.
إنّ التغيّر الذي حمله تصريح تبون ليس في الإحالة على مبادرة الاستسلام العربية والتأكيد على حلّ الدولتين بل يكمن أساساً في الاستعمال المباشر لمصطلحي التطبيع وإسرائيل، وهو بذلك يسقط الحواجز النفسية لدى الجزائريين ويهدّد مناعتهم ضدّ مشروع التطبيع. إنّ هذه الكلمة المقيتة التي اضطرّتنا الأنظمة الرسمية للتعامل معها كانت وما تزال مستهجنة لدى الفرد الجزائري، وينبغي أن يستمرّ ذلك لأنّ سقوط الحواجز النفسية يهدّد الأمن الفكري للجزائريين ويضربه في مقتل، وما كان على تبون أن ينطلق بما هو مرفوض لدى شعبه سواء كان ذلك عن رغبة فعلية في التطبيع أو مجرّد مراوغة تستهدف التعجيز لقناعته برفض الكيان الصهيوني لحلّ الدولتين.
وإن كان من المفهوم أن يكون للضغوطات الأمريكية أثر على الخطاب الرسمي بشأن القضية الفلسطينية، فإنّ من المرفوض قطعاً أن يستعمل المسؤولون لغة تصالحية مع كيان مجرم يرتكب حرب إبادة شنيعة ضدّ الفلسطينيين في غزة مهما كان قصد أولئك المسؤولين وأيّا كانت أهدافهم الحقيقية، ولا يقع على عاتق أفراد الشعب تبرير تلك السقطات وتلمّس الأعذار لها بل تلك وظيفة السلطة والناطقين باسمها، وإن كان هؤلاء عاجزون عن صياغة خطاب متّسق مع الموقف الشعبي بشأن قضايا الأمّة فهم عن قيادتها أعجز وما عليهم سوى ترك أماكنهم لمن يجيدون الخطاب والحديث إلى الإعلام الوطني والأجنبي. وإنّه لمن المعيب أن يتطوّع الأكاديميون والصحافيون وقادة الأحزاب لتبرير الكلام عن التطبيع ومهاجمة الرافضين لفكرة التطبيع مع خطاب التطبيع، وعلى الرئيس تبون نفسه أن يعلم أنّ فيلق المتزلّفين والمتفذلكين الذين سارعوا إلى الإشادة بتصريحاته هم أوّل من سينقلبون عليه يوم تتغيّر موازين القوة كما انقلبوا على من سبقوه، والشقيّ من اتعظ بنفسه.
في ختام هذا المقال ينبغي التأكيد على أنّ الموقف الشعبي الرافض لخطاب التطبيع خير سند للسلطة إذا أرادت أن تسجّل موقفاً متقدّما في نصرة القضية الفلسطينية، وما على صنّاع القرار سوى فتح المجال للأصوات التي تعبّر عن نبض الشارع الجزائري ليكونوا عوناً لها في مواجهة الموجة الثانية من التطبيع، وعليها أن تستغلّ الغضب الجماهيري من حرب الإبادة للوقوف في وجه الاتفاقيات الإبراهيمية ومخطط تهجير الفلسطينيين إذا كانت جادّة في أن تبقى مع فلسطين ظالمة أو مظلومة، أمّا إذا آثرت دخول بيت الطاعة فقد دخله من هو أكثر مالا وبترولاً ولم يزده دخوله إلاّ هواناً ومذلّة. وعلى الرئيس تبون أن يعلم أنّ للتاريخ بابين؛ باب للمجد والخلود وباب للخزي والصغار وليدخل من أيّ الأبواب يشاء، ثم لن يكون في ملك الله إلا ما أراد وقدّر.
أمّا أولئك المتزلّفون المبرّرون من التنظيمات والشخصيات التي تدّعي تمسّكها بالمرجعية الإسلامية فعليها أن تعلم أنّ سقف الخطاب الشعبي أعلى من سقفها وسقف مؤسّسيها أوّلاً، وأنّ الشعوب غير محكومة بالإكراهات التّي تحكم الأنظمة ثانياً، وأنّ هذه التنظيمات سيكون مصيرها كمصير أشباهها في المشرق والمغرب، أعني ستكون حذاء للداخلين حمأ التطبيع سرعان ما ينزعونه ويرمونه في أقرب سلّة قمامة كما رمى الملك المغربي بن كيران وإخوانه قبل سنين، ومن شابه جيرانه فما ظلم.
34 تعليقات
مختار دباشي
٦ فبراير ٢٠٢٥رياض
٦ فبراير ٢٠٢٥محمد طبال
٦ فبراير ٢٠٢٥نورا بلعيدي
٦ فبراير ٢٠٢٥مراد منصوري
٦ فبراير ٢٠٢٥أحمد رحماني
٦ فبراير ٢٠٢٥رضوان.ب
٦ فبراير ٢٠٢٥Bouzidi Mohamed
٦ فبراير ٢٠٢٥أحمد رامي
٦ فبراير ٢٠٢٥أحمد
٧ فبراير ٢٠٢٥باديس سعيد
٧ فبراير ٢٠٢٥الجزائري
٧ فبراير ٢٠٢٥حمو
٧ فبراير ٢٠٢٥نضال ابو سجود
٧ فبراير ٢٠٢٥نعيم الجزائري
٧ فبراير ٢٠٢٥Atallah
٨ فبراير ٢٠٢٥Badro elyaguoubi
٨ فبراير ٢٠٢٥Omar aksa
١٩ فبراير ٢٠٢٥aichaasekkiou@gmail.com
١٩ فبراير ٢٠٢٥راقع حسن
١٩ فبراير ٢٠٢٥أمينة نوري
١٩ فبراير ٢٠٢٥محمد بوعكة
١٩ فبراير ٢٠٢٥نور الدين زمام
٢٠ فبراير ٢٠٢٥MyName
١ مارس ٢٠٢٥Alice
٩ مارس ٢٠٢٥Alice
٢٠ مارس ٢٠٢٥عبد الجليل
٦ أبريل ٢٠٢٥الدويسي الدويسي
٦ أبريل ٢٠٢٥الزين شيبوط
١٩ مايو ٢٠٢٥رياض
١٩ مايو ٢٠٢٥سحنون بلال
١٩ مايو ٢٠٢٥بوعشة سفيان
١٩ مايو ٢٠٢٥سماتل مصطفى
٢٠ مايو ٢٠٢٥Oussama
٢٠ مايو ٢٠٢٥