مطبعون مع وقف التنفيذ (01)
يبدو أنّ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لم يكن يعلم ما ستثيره كلماته من امتعاض واعتراض لدى قطاعات واسعة من الشعب الجزائري حين نطق بتصريحه الذي قال فيه بأن الجزائر مستعدة للتطبيع مع الكيان الصهيوني في اليوم الذي تتمّ فيه إقامة الدولة الفلسطينية

الكاتب كمال داود
وقد كانت أوّل مرة على حد علمي يستعمل فيها مسؤول جزائري كلمة "إسرائيل" بدلاً من الاحتلال الإسرائيلي أو الكيان الصهيوني كما هو متعارف عليه في أدبيات الخطاب في الجزائر، وهي ثاني مرة تعلن فيها شخصية رسمية في السلطة عن استعدادها للتطبيع المشروط بعد تصريح وزير الخارجية أحمد عطاف قبل سنة حين أعرب عن استعداد الحكومة للنظر في التطبيع في حال إقامة دولة فلسطينية.
بعيدا عن منهج التبرير الذي سارعت إلى تبنّيه شخصيات أكاديمية وسياسية من مختلف ألوان الطيف؛ إسلاميين وعلمانيين، ليبراليين واشتراكيين، معروف عن أغلبهم التمسح بالنظام، وتأويل كلّ ما يصدر عنه من سياسات وتصريحات من جهة، ومن دون الغرق في استنطاق النوايا واستكشاف خفايا الأنفس، يعيدنا تصريح تبون إلى تدارس خلفيات وسوابق الموقف الجزائري من الكيان الصهيوني وحل الدولتين والتطبيع لاستكشاف ما فيه من تباين بين مختلف أقطاب النظام، وما طبعه من تحولات في آخر ربع قرن من تاريخ الجزائر المستقلة، وما يستدعيه ذلك من استحضار صورة اليهودي بصفة عامة والصهيوني بشكل خاص في مخيال الفرد الجزائري ومحاولات فرض السردية التصالحية مع اليهود ثم الكيان الصهيوني من طرف لفيف من السياسيين والكتاب الذين ما فتئوا يفرشون بساط التطبيع لفئة منبوذة لها تاريخ منكر في أرض يختلط ترابها بالدماء والجماجم؛ دماء كان لأجداد هؤلاء نصيب في سفكها، وأرض مهّد أسلافهم لاحتلالها واستعباد أهلها 132 سنة كاملة، لنخلص في الأخير إلى ما يساعد على فهم سياقات التصريح ومخرجاته، وما ينبغي على السلطة وجماهير الشعب فعله لمحاربة تيّار التطبيع.
اليهود في المخيال الشعبي الجزائري
وصف شيلر قنصل الولايات المتحدة الأمريكية في الجزائر في عام 1826 اليهود بأنهم لم يكونوا إلاّ "خليطا مقيتا من النذالة والحقارة"، ولا نبالغ إذا قلنا أنّ الثقافة الشعبية للجزائريين مازالت تحتفظ لليهود بهذا الوصف الذي قرّره شيلر قبل قرنين من الزمان، وقد ساهمت أفعال اليهود في ترسيخه بسبب خياناتهم المتكرّرة وتحالفهم مع الأعداء والغزاة ضد السكان الأصليين الذين آووهم بعد أن خيّرهم الإسبان بين التنصّر أو النّفي سنة 1492 فاختاروا الذهاب إلى الجزائر وعاشوا في عاصمتها يشتغلون في مهن حقيرة ثم صاروا سماسرة وتسلّق القادمون من ليفورن سلم السلطة شيئا فشيئا، ليتواطأ لاحقا نفتالي بوشناق وكوهين ويعقوب بكري مع الفرنسيين في مسألة الديون ليمهّدا الطريق لاحتلال الجزائر، ثم كان ما كان من مجازر ارتكبها اليهودي اللقيط يوسف أحد قادة جيش الاحتلال، وما كان من خيانة وجاسوسية لعبها بن دوران في وساطته بين الأمير عبد القادر والجنرالات الفرنسيس في معاهدة التافنة، وقبله موشي بوشناق الوسيط بين دامريمون والباي أحمد، الذي كان يعمل في خدمة الباي ثم أصبح عونا للاستعلامات لدى دامريمون وساهم في سقوط قسنطينة بأيدي الاحتلال.
في ربيع 1871 كوّن يهود الجزائر ميليشيا مسلحة سموها "فرانك تيرور" أثارت الرعب في مدينة الجزائر وكان سلاحها موجّها ضد المسلمين بطبيعة الحال، حيث خرّبت دور المسلمين وقتلت بعضهم وهاجمتهم حتى في الأعياد تحت رعاية السلطة الفرنسية تماما كما يفعل المستوطنون اليوم في الضفة الغربية تحت حماية الجيش الصهيوني، وقد حدث كل ذلك بدءا من سنة 1871 أي بعد قانون كريميو بسنة واحدة الذي ينصّ على منح اليهود الجنسية الفرنسية، فبمجرد ما حصلوا عليها كشروا عن أنياب الإرهاب والجريمة، وقد منح القانون 35 ألف يهودي الجنسية في ذلك الحين.
وفي 21 ديسمبر 1882 أعلن الحاكم العام لويس تيرمان نهاية الحماية عن مدينة غرداية ونزلت العائلات اليهودية التي صارت فرنسية بموجب قانون التجنيس إلى ميزاب واكتشف الفرنسيون أن المذهب الاباضي لدى المزابيين يختلف عن المذهب المالكي لدى عموم الشعب فكان ذلك بالنسبة إليهم كنزا ثمينا، وكان إلحاحهم على التفرقة المذهبية هناك يشبه إلحاحهم على التفرقة العرقية في منطقة زواوة (القبائل) بينهم وبين العرب، ولم يجدوا عنصرا أحسن من اليهود لإثارة الفتن المذهبية، وبدأ بث الصراع المذهبي منذ تلك اللحظة في ميزاب بالفصل بين قضاة المالكية وقضاة المذهب الإباضي، ومنذ ذلك الحين ذاب اليهود في المجتمع المزابي وغيروا أسماءهم ومنهم من دخل الإسلام، ولعلّ من بقي على دينه أكثر، لكنّ المعلومات حول الموضوع شحيحة في ظل ندرة البحوث المتعلقة بيهود الجزائر.
بعد 1948 انضمت مجموعات من يهود الجزائر إلى المنظمات الصهيونية وشاركت بانتظام في مؤتمراتها، وكان لها دور كبير في تدريب الشبان وتسليحهم ثم إرسالهم للقتال في صفوف العدوّ في الحرب العربية-الصهيونية، وكان كل ذلك برعاية وحماية فرنسيتين على الرغم من الاحتجاجات المتتالية من طرف النواب الجزائريين في البرلمان الفرنسي مثل لمين دباغين ومسعود بوقادوم ضد ما سموه حينها "الإجرام الصهيوني بالجزائر"، ولا حاجة للتأكيد على أن تلك التنديدات كان مآلها مثل كل تنديد وشجب واستنكار مجرد صرخة في واد.
واستمر اليهود في غدرهم وتعاونهم مع الاحتلال الفرنسي حتى اندلاع الثورة حيث لم يتأخروا في ارتكاب المجازر كلما سمحت لهم الظروف فكانت لهم اليد السوداء في كل ما له علاقة بالخيانة والأذى للمسلمين على الرغم من أن جبهة التحرير الوطني وجهت لهم نداءات كثيرة للانضمام إلى الثورة، تارة عن طريق قادتها وتارة من خلال جريدة المجاهد. وكما هي عادة اليهود في المخاتلة والغدرارتفعت أصوات اليهود بعد اندلاع الثورة رافضة لما وصفوه بالتخندق إلى جانب طرف ضد آخر، موضحة أن يهود الجزائر هم أنصاف جزائريين، وأنصاف فرنسيين، ولدوا في بيئة وعادات وتقاليد بربرية عربية إسلامية، وتشربوا الثقافة العربية، وتجنسوا بالجنسية الفرنسية، وينتمون إلى القطر الجزائري كما ينتمون إلى العالم الأوروبي، وما إن تمايزت الصفوف وأصبح الحياد مستحيلاً انخرطوا في القتال مع الجيش الفرنسي وارتكبوا المذابح ضد الجزائريين كما كان الحال في مذبحة قسنطينة في ماي 1956، وانضم المئات منهم إلى المنظمة السرية OS وارتكبوا الفظاعات في وهران بين 1960 و1962، ولما تأكّدوا من سقوط مشروع الجزائر الفرنسية رحل 18 ألفاً منهم إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، والبقية غادروا مع الاحتلال عشية الخامس جويلية 1962، وبقيت أقلية لا أحد يعلم عددها ومصيرها على وجه التدقيق في الجزائر.
ومن الغرائب أن هذه الفئة المجرمة من البشر بتاريخها الأسود ترتدي دور الضحية وتسمي ما حصل في الجزائر ظلما تاريخيا لليهود، حيث قاد داني أيالون، وهو دبلوماسي صهيوني من أب جزائري وأم بولندية، اشتغل سابقا نائبا لوزير خارجية الكيان الصهيوني حملة أطلقتها حكومة الكيان في جويلية 2020 لاسترجاع ما تدعي أنها أموال لليهود المطرودين من الدول العربية من بينها الجزائر، مؤكدة سعيها لمقاضاة عدد من الدول العربية، تتقدمها الجزائر ومصر وتونس وليبيا أمام الأمم المتحدة لتصحيح ما وصف بـ" الظلم التاريخي" الذي لحق باللاجئين اليهود في هذه البلدان عن طريق تقديم تعويضات مالية لأبناء عائلاتهم عن ممتلكات وأموال قدرتها بالملايير، اضطروا للتخلي عنها عقب هجرتهم بعد قيام الكيان سنة 1948.
وهنا ينبغي أن نسجل ملاحظتين؛ الأولى هي أن المخيال الشعبي الجزائري يختزن صورة قاتمة السواد عن الوجود اليهودي في الجزائر بناء على رواسب تاريخية ثابتة وأنّ هذه الصورة الذهنية مخزون ثمين يشكل عماد الأمن الفكري للمجتمع الجزائري تجاه فكرة التطبيع مع العدو الصهيوني ينبغي استثمارها ودعمها للوقوف ضد موجة التطبيع القادمة في سياق ما أطلق عليه الاتفاقيات الإبراهيمية، والثانية أنّ التطبيع مع الكيان الصهيوني ليس مجرّد معاهدات ووثائق يتمّ التوقيع عليها بل هو التزام قد تترتّب عليه مطالب صهيونية بالتعويض عمّا يسمّيه اليهود بالظلم التاريخي الذي عانوا منه في الجزائر، وربّما وصلوا إلى مطالبتنا بالاعتذار عن الجرائم التي ارتكبوها ضدّنا، وقد عوّدتنا الأقليات وعلى رأسها اليهود على احتكار المظلومية ولعب دور الضحية. ومن هنا ينبع الخطر الأكبر من فكرة التطبيع مع الكيان الغاصب، وتأتي أهمّية التصدّي لكلّ فكرة متصالحة مع التطبيع مهما كانت نيات ودوافع القائلين بها ومناصبهم وما قد ينجرّ على تحدّيهم من عواقب.
40 تعليقات
سعيد
٥ فبراير ٢٠٢٥أحمد رحماني
٥ فبراير ٢٠٢٥Ali Hebbal
٥ فبراير ٢٠٢٥مراد منصوري
٥ فبراير ٢٠٢٥saadbijoux@gmail.com
٥ فبراير ٢٠٢٥نورا
٥ فبراير ٢٠٢٥حسن
٥ فبراير ٢٠٢٥مختار دباشي
٥ فبراير ٢٠٢٥نعيمة لونيس
٥ فبراير ٢٠٢٥عبد القادر
٥ فبراير ٢٠٢٥مصطفى بوقبرين
٥ فبراير ٢٠٢٥Miloud Miloud
٥ فبراير ٢٠٢٥Hicham
٥ فبراير ٢٠٢٥ابراهيم
٥ فبراير ٢٠٢٥عمارة الشيخ
٥ فبراير ٢٠٢٥عمارة الشيخ
٥ فبراير ٢٠٢٥مقدم عومار
٥ فبراير ٢٠٢٥Brahim
٥ فبراير ٢٠٢٥Brahim
٥ فبراير ٢٠٢٥دحمان عبد القادر
٥ فبراير ٢٠٢٥فريد بوعكاز
٥ فبراير ٢٠٢٥شكري بورزق
٥ فبراير ٢٠٢٥إلياس
٥ فبراير ٢٠٢٥سعاد طه
٥ فبراير ٢٠٢٥سعد
٥ فبراير ٢٠٢٥وحيد دريدي
٥ فبراير ٢٠٢٥Bamourbaaziz
٦ فبراير ٢٠٢٥Bamourbaaziz
٦ فبراير ٢٠٢٥المسعود بن السلامي
٦ فبراير ٢٠٢٥محمد طبال
٦ فبراير ٢٠٢٥zouheyrbounneche
٦ فبراير ٢٠٢٥H. E. M
٦ فبراير ٢٠٢٥H. E. M
٦ فبراير ٢٠٢٥Mohammad
٦ فبراير ٢٠٢٥نضال أبو سجود
٧ فبراير ٢٠٢٥MyName
١ مارس ٢٠٢٥Hello
٩ مارس ٢٠٢٥John
٢٠ مارس ٢٠٢٥Yahia Kadri
٤ أبريل ٢٠٢٥Fathma
٩ أبريل ٢٠٢٥