ما بعد قافلة الصمود!
لا يوجد شيء في السياسة أكثر جدوى من الإصرار وتكرار المحاولة حتى لو تكرّر الفشل بشرط ألا يكون ذلك تكرارا لأسباب الفشل نفسها، وهنا يأتي دور الإبداع وتنويع الحلول والخطط لتخطّي العقبات التي تعترض المشاريع والمبادرات السياسية مهما كان غرضها ونطاق تنفيذها،

قافلة الصمود
ينطبق ذلك على قافلة الصمود؛ تلك القافلة الشعبية التي انطلقت دعوتها الأولى من تونس، ولحقتها الجزائر وليبيا وموريتانيا بهدف كسر الحصار المفروض على غزة برّيا ضمن إطار مبادرة دولية كبرى تهدف إلى تحدّي الكيان الصهيوني وداعميه وإسناد الشعب الفلسطيني الأعزل في القطاع الصامد. لقد كانت ومازالت قافلة الصمود مبادرة اعتذارية ومحاولة توبة عن خذلان أهل غزة بعد 20 شهرا من الإبادة المستمرة، تشبه ثورة التوّابين في العراق بعد خذلان الحسين بن علي رضي الله عنهما، الفارق أنّ الأخيرة كانت بعد نهاية الحسينيين أمّا أهل غزة فمازال في وسعنا إدراكهم وإدراك أنفسنا.
والآن، بعد أن حدّدت لنا قافلة الصمود خطوط الدفاع الصهيوني المتقدّم على مشارف مدينة سرت الليبية حيث عاد المشاركون أدراجهم تحت الضغط والتهديد واعتقال بعض الأفراد لدى ميليشيات خليفة حفتر، صار من الواجب على كلّ مهموم بنصرة غزة أن يفكّر في طرق ووسائل وأدوات بديلة لتحقيق الهدف الذي انطلقت من أجله القافلة؛ وأن يحذر الجميع من العودة إلى القعود بداعي أنّ الأبواب مسدودة والطرق مقفلة وبوّابو الصهاينة في كل مكان وبلد، وإنّه لقول حقّ يجب أن يحتج به في الحق لا أن يراد به الباطل. أي نعم، لقد أثبت حفتر أنّه بوّاب عند بوّاب آخر لا يقلّ عنه نذالة وعمالة وخزيًا، وأكّدت لنا القافلة أنّ حفتر والسيسي وأمثالهما مردوا على الخيانة وقد صرنا نعلمهم، لكن هناك آخرون لا نعلمهم الله يعلمهم، أو لنكون أكثر دقّة وصراحة مع النفس؛ كلّنا نعلمهم وندرك أنّهم خونة بدركات متفاوتة لكنّ كثيرا من الناس يداورون ويناورون وينكرون خوف التصريح وما يجرّه من ويلات، لكنّ المهم أنّ كلّ امرئ صار يعرف في قرارة نفسه أن الكيان الصهيوني يمتدّ من حيث تنتهي قدرتنا على الإشارة صوب العملاء وخدمهم وبوّابيهم وأتباعهم باختلاف تأثيرهم وأحجامهم ومراكزهم.
إنّ أكبر خطر يتهدّدنا ليس القمع الحاصل في مصر والمنع في شرق ليبيا، وليس حظر المظاهرات في عواصمنا؛ كلّ ذلك متوقّع ومعلوم، إنّما الخطر أن يقول بعضنا: "قد حاولنا فمنعونا" وفينا سمّاعون لهم فنكفّ عن المحاولة، ونركن إلى القعود كما فعلنا طيلة الأشهر الماضية وتسوّل لنا أنفسنا أنّ المهمّة قد تمّت ونعتقد أنّ الواجب قد سقط، ونظنّ أنّنا أعذرنا إلى الله فيكون في ذلك إرضاء للضمائر وإسكات لصوت اللّوم والعتاب المنبعث من دواخلنا. فماذا بعد؟
لقد رمت قافلة الصمود حجرا في بركة راكدة بعد فترة من الجمود والكسل، ومن الخطأ تضييع هذه الفرصة فيما لا يفيد، نحتاج اليوم إلى الاستلهام من التجربة وتطعيمها والانتقال بها من محاولة شعبية لكسر الحصار إلى مجهود منظم ومتشعب عبر مسارات متعددة في كل دولة وعابرة للدول والحدود كذلك على أن تمزج بين المسارات الشعبية لتعزيز الفعل المقاوم، وبين مسارات قانونية وإعلامية أخرى؛ فمن المستعجل الآن تأسيس تنظيمات ومؤسسات لدعم القضية الفلسطينية تتولّى تجميع المجهود الوطني وترتقي به إلى مستوى التأثير الجماعي بعيدا عن العشوائية والعمل الفردي الذي لن يتجاوز نفعه الحيز الضيق للفرد، مثال ذلك أن تنشأ مؤسسات تشكّل لوبي ضغط لتثبيت السردية الفلسطينية في الداخل والخارج، وتعزّز التضامن الأجنبي مع الفلسطينيين في الأوساط الإعلامية والأكاديمية والسياسية أيضا خاصة مع توفّر البيئة المناسبة للتنفيذ في ظل المحاولات الأوروبية المتزايدة للتصدّي للخطاب الصهيوني في البرلمان الأوروبي على سبيل المثال لا الحصر، ولم لا الوصول في الأخير إلى تشكيل لوبي مؤثّر ينافس اللوبي الصهيوني في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وهو جهد وإن بدا الآن صعب التحقق إلا أنّه ممكن في السنوات المقبلة.
أمّا على الصّعد الوطنية والمحلّية فالواجب أن نرتقي إلى مستويات من الفعل المقاوم أعلى بكثير مما يجدر بغيرنا، وفي هذا السياق يجب أن نعترف أن قافلة الصمود لا تساوي شيئا في الحقيقة أمام المتاح والمتوفّر من سبل النصرة، بل أنّ من المعيب أن يكون عدد المشاركين في القافلة 200 شخصٍ من الجزائر مثلا، وهي نسبة غير تمثيلية بتاتا في دولة يضاهي تعدادها 45 مليون نسمة، فشل أفرادها وتخاذلت أحزابها وقواها الجمعوية عن إقناع الناس بجدوى مقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال الصهيوني مثلا بله بغيرها من الخطوات الأكثر تأثيرا، وعلينا أن نعترف بصفتنا جزائريين بأنّنا أبعد الشعوب عن التنظيم والمبادرة سواء فيما يخصّ قضايانا المحلّية أو فيما يتعلق بالقضية المركزية للأمّة، وإلاّ ما معنى أن يتخلّف مجتمعنا عن قافلة الصمود وعن الاحتجاج والتظاهر والمقاطعة، ومع ضعفنا الشديد يخشى علينا أن يسود فينا الخطاب المتصهين في المدى المنظور إذا واصلنا بنفس الوتيرة من الكسل والخذلان، وهذا الخطاب بالذات بدأت بوادره في الظهور لدى الأنتلجنسيا المزيّفة من الطائفة المتفرنسة خاصة وعند بعض التيارات الفكرية المتخفية تحت ستار الدين والمستوردة من دول الطغيان الخليجية لاسيما المملكة السعودية والإمارات، فنحن غير محصّنين فكريا أمام الاختراق الثقافي للعدوّ بالمطلق وقد دلّ طوفان الأقصى على ذلك، ولا يوجد على الأرض جهد عملي لمواجهة السردية الصهيونية غير الشعارات الفارغة.
حين نتحدّث عن تنظيم الفعل المقاوم فإنّنا لا نقصد أن يكون ذلك مناسباتيا مثلما هو دأبنا في كل الشؤون، بل أن يستمرّ في الزمان والمكان وتتعدّد أوجهه ووسائله وطرقه طبقا لما يتم الاتّفاق عليه بين القيادات، وألاّ يقتصر على المظاهر الاحتفالية والرمزية، وإنّما يتعدّاها ليتصف بثلاث محدّدات: المؤسّسية، والاستمرارية، والانتشار، بحيث يصبح حركة اجتماعية راسخة ذات تمويل وقيادة ورموز وأدوات وبرامج تساهم في رفع الوعي بالقضية الفلسطينية وتعمل وتنسّق العمل المقاوم في أبعاده غير العسكرية انطلاقا من كلّ الأماكن والهيئات، وتقطع تماما مع عقلية الانتظار والمناشدة والبكائيات التي لم تنفع أصحابها ولم تجد الفلسطينيين في شيء.
في هذا السياق، لا توجد وصفة صالحة لكل الأفراد والجماعات، وكلّ فرد أدرى بقدراته ومواهبه وتفضيلاته الشخصية فمن يستطيع العمل الجمعوي ينخرط فيه، ومن يملك القدرة على التنظيم يؤسّس ما يراه مناسبا من تنظيمات، المهمّ أن ينتقل من وضع المتفرّج إلى وضع العامل، ومن المنتظر إلى المؤثّر، وكل ذلك بعيدا عن العشوائية والفوضى وحبّ الاستعراض والتصدّر وترديد الشعارات، وأن يكون مذهب المتنافسين التقارب والترفّع عن الخلافات الايديولوجية كما ترفّع عنها أصحاب قافلة الصمود التي أعطت لنا درسًا في الوحدة والعمل المشترك من أجل قضيتنا المركزية حيث بدأت مبادرة من التيار اليساري التونسي وانتهت خليطا من اليساريين والمحافظين والإسلاميين في شتّى بلدان المغرب العربي، وحّدت القلوب والمشاعر والجهود على هدف واحد وحطمت الحدود الوهمية بين أوطاننا، وكفى بالقدس شرفًا أن يكون سببا للوحدة بين المختلفين، والتقارب بين الخصوم الإيديولوجيين!
لقد كشفت لنا قافلة الصمود أنّ هوامش المتاح أوسع بكثير مما قد نتصوّر، وأكّدت لنا أن البدء بالعمل كفيل باتّساعه، وأنّ المبادرة تبدأ من مجموعة صغيرة ثمّ تنتشر، هكذا بكلّ بساطة، ومن يبحث عن اكتمال العدد والعدّة لينطلق سينتظر كثيرا ثم لا يفعل شيئا. فهل نعمل؟
ابدؤوا بتصفّح قوانين بلدانكم، والنظر إلى تجارب غيركم وستجدون ما لا تحصون من الأفكار القابلة للتنفيذ فورًا خاصة أنّ العالم يضجّ بمحاولات كسر الحصار عن غزة، وها قد أتت حرب الكيان الصهيوني وإيران لتفتح لنا مزيدا من آفاق النّصرة، وتشغل أعين المتصهينين عنّا، فلنحذر من القعود بعد قافلة الصمود!
8 تعليقات
خالد
١٦ يونيو ٢٠٢٥رحيم عبدالواحد
١٦ يونيو ٢٠٢٥شيراز
١٦ يونيو ٢٠٢٥عبد الرحمان
١٦ يونيو ٢٠٢٥أسامة ديلمي
١٦ يونيو ٢٠٢٥محمد طبال
١٦ يونيو ٢٠٢٥زكريا
١٧ يونيو ٢٠٢٥عبد الجبار خيّرة
١٧ يونيو ٢٠٢٥