المتلاعبون بالقطيع
إن كنت تظنّ أنّ كل الناس يملكون عقولا فأنت على الأغلب لا تملك عقلاً، وهذا سيضرّ بتصوّراتك وخياراتك في كل القضايا التي ستطرح أمامك، سارع إلى التخلّص من أوهامك وارجع إلى الحقيقة المقرّرة، كلّ الناس لديهم عقول لكنّ أكثرهم لا يعقلون، تختزن رؤوسهم كلّ أدوات التفكير لكنّهم لا يستعملونها، وهذا ما يجعل الأغلبية قطيعاً من المواشي يساقون حيث يشاء الرّاعي، وفي ذلك إساءة أيضا؛ إساءة للقطيع وليست لأولئك النّاس. ألم أقل لك تخلّص من الأوهام؟

المتلاعبون بالعقول رقميا
في منتصف ليلة 16 يناير 2001 تلقّى آلاف الفليبينيين رسالة قصيرة على هواتفهم نصّها: "توجّهوا إلى إدسا بملابس سوداء"، وفي ساعة واحدة وصل عشرات الآلاف إلى شارع إدسا، وعلى مدار أربعة أيام متتالية تجمع أكثر من مليون شخص في وسط المدينة هتفوا بنزول جوزيف إسترادا عن الحكم، وهو ما حدث يوم 20 يناير، الذي سبقه إعلان قائد الجيش في ظهوره أمام الحشود يوم 19 يناير انسحابه من معسكر الرئيس، كما حذا حذوه عدد من الضباط السامين في الجيش والشرطة في نفس اليوم وفسحوا الطريق أمام مسيرة جماهيرية متوجهة نحو القصر الرئاسي، وفي الوقت الذي كان فيه الرئيس إسترادا نصف مخمور أرسل ضباط الجيش أحدهم لإخباره بأن الجيش لم يعد يسانده، وهكذا انتهت مسيرة ذلك الممثل السينمائي الذي جعلته الأحداث رئيسًا، مثلما جعلت الصدفة بعض الأشخاص رؤساء وقادة جيوش في أنحاء شاسعة من أوطاننا.
كانت تلك الرسالة القصيرة sms كافية لإسقاط نظام بأكمله وتنفيذ انقلاب قد يصحّ أن نسمّيه انقلابا إلكترونيا، ومنذ تلك اللحظة أطلق أستاذ علم الاجتماع الأمريكي هاوارد راينجولد مصطلح الحشود الذكية على حادثة تحريك الجماهير برسالة نصّية مجهولة المصدر، ونشر في عام 2002 كتابا يحمل عنوان "الحشود الذكية: الثورة الاجتماعية القادمة"، وصف الذكّاء هنا يخص الأدوات وتكنولوجيات الاتصال المستعملة والذين يستعملونها لتحريك الجماهير وتوجيهها بالطريقة التي يريدونها وليست للحشود، إن حسبتها وصفا للجماهير فأنت مازلت في ضلالك ووهمك القديم. في ذلك الكتاب توقّع راينجولد أن تصبح وسائل الاتصال الحديثة أداة لدعم الديمقراطية وتنظيم المظاهرات والحركات الاحتجاجية كما تستخدم لنشر الإشاعات ومراقبة حركة الرأي العام وتوجيهه، ليعيش الناس بعد سنوات التجربة حيّة في ثورات الربيع العربي، ويكتشف العقلاء أنّ الاعتقاد الذي ساد لفترة حول زوال سيطرة الأنظمة الحاكمة على وسائل الدعاية بفضل انتشار مواقع التواصل محض أمان وأحلام داعبت خيالات من لا يعرفون طبائع الاجتماع وأصول السياسة.
لقد جعلت تلك التجارب الأنظمة تنتبه إلى تفصيل مهمّ يتعلّق بأدوات الدعاية والتحكّم في الرأي العام، فاستغلّت التقنية الحديثة لتحقيق الأهداف نفسها التي كانت ترومها باستعمال القنوات الفضائية والصحف والإذاعة، لقد بدّل غوبلز ثيابه وارتدى طاقية حديثة وأسند مهمّة الدعاية لأنامله لترتاح حنجرته، بل أنّه استطاع ببراعة عجيبة تحويل عبارات كتبها وهو مستلق على أريكته إلى هتافات صاخبة تردّدها حناجر الجماهير في الساحات والميادين؛ اكتسب بدلا عن حنجرة ملايين الحناجر بجهد أقلّ وفعالية أكبر، وفي كل دولة نسخ كثيرة من غوبلز بعضها أصلي وآخر مقلّد، ولأنّ الجماهير أيضا درجات قد ينجح المقلّد في المجتمعات فقيرة الثقافة ويوجّهها حيث يشاء من دون أن يضطرّ لبذل جهد متعب لدراستها وفهمها ثمّ صياغة الخطاب الملائم لها.
في السبعينات أيضا نشر هربرت شيلر كتابا بعنوان "المتلاعبون بالعقول" (وهو كتاب قيّم يمكن اقتناؤه من هنا) قال فيه أن ما يشاهده الناس وما يقرؤونه وما يلبسونه وما يأكلونه، وما يتصورون أنّهم يفعلونه ليس سوى نتيجة لقيم قرّرها جهاز إعلامي أخذ على عاتقه قولبة الأفكار والأذواق بما يوافق مصالح مُلاك وسائل الاتصال الجماهيري الكبيرة، ولا داعي للإشارة إلى أنّ هؤلاء مرتبطون جذريا بالأحزاب وكبار القادة السياسيين، فوسائل الإعلام تقدّم للناس مادة تسير جنبا إلى جنب مع مقتضيات السوق، وليس مهمّا طبيعة ما يباع في السوق؛ بضاعة أو أفكار أو معتقدات سياسية. ويذكر الكاتب أمثلة عن نصائح بعض أعضاء الكونغرس للرؤساء الأمريكيين لإقناع الرأي العام بالسياسات العدوانية والحروب التي يقرّر البيت الأبيض شنّها، فيقول أنّ تلك التوصيات تركّز دائما على خلق الرعب لدى المواطنين الأمريكيين وعند الأعضاء الآخرين في الكونغرس كذلك، وبعد النجاح في ترسيخها في العقول يمكن للقيادة السياسية أن تفعل ما تشاء. لا ريب أنّها وصفة صالحة في كل زمان ومكان، تكرّرت في حروب أفغانستان والعراق، وفي حرب الإبادة على غزة، وتنتهجها الأنظمة المستبدة في دولنا العربية حين ترغب في ضرب خصومها، فإذا أرادت الدولة العميقة الإطاحة بأحد الرؤوس تسلّط عليه وسائل الإعلام التقليدية أو الحديثة أو كلاهما لتجهّز الجماهير لما ستقدم عليه ثمّ تنفّذ ما تريد بمنتهى الراحة، بل أنّها في كثير من الأحيان تحظى بمساندة تلك الجموع التي لا تعرف على الأغلب أصل المشكلة وهوية الضحيّة لكنّها تنقاد إلى دعاية أصحاب السلطة ولو كان ضحيّتها من يدافع عن حقّ شعبي أو قضيّة مركزية مثل قضية فلسطين.
والمعضلة أنّ هذا يتكرّر دورياً وبالأدوات والكيفيات نفسها من دون أن يمسّها تغيير، ومن دون أن تحتاج السلطة إلى إبداع خطاب جديد وأساليب مبتكرة، تتمّ العملية آليًا ويكون المنعكس الشرطي أيضا على نفس المستوى من التفاعل وينتج مخرجات تطابق مثيلتها في المرات السابقة، شيء يشبه أن تضغط زرّا فيرتفع صوت الجرس على النحو المعتاد، فعل سلطوي بوسائل إعلامية تقليدية أو حديثة وردّ فعل شعبي غارق في البدائية، حتّى أنّ الأنظمة صارت تستعين بما صار يعرف بالذباب الإلكتروني وهم أفراد عديمو الأخلاق والمسؤوليات يتحرّكون وفق مصفوفة صاغها الجهاز الدعائي، يهاجمون إذا طلب منهم ذلك ويمدحون إذا جاء الأمر بالمدح، لا يوجد من بينهم من يألو رأيه، ماكينات دعائية خبيثة ومنحطة تجد لدى الجماهير آذانا صاغية حتى مع انفضاح أهدافها وأساليبها كأنّ رؤوس الجماهير تربة لا تنبت فيها غير الافتراءات ولا يزدهر فيها شيء أكثر من ازدهار البهتان. ويبدو أنّ تروتسكي كان على حق حين أخبرنا أنّ "الافتراءات تتطوّر وتصير حقيقة واقعة فقط حينما تلبّي متطلّبات تاريخية محددة، لابدّ أن يكون ثمّة تحوّل سياسي في العلاقات الاجتماعية أو في المزاج السياسي حتى يجد الافتراء والتزوير والخداع سوقًا رائجة". إذن، المشكلة ليست فقط فيمن يروّجون الأكاذيب بل في الجماهير الحمقاء التي تفضّل البهتان على الحقيقة، وتؤثر تصديق الإشاعة على التبيّن، وتأخذ المعلومات من المصادر المجهولة وبين يديها كلّ أدوات البحث، بل أنّها في كثير من الأحيان تختار من تعلم أنّهم سفهاء وعديمو مروءة لتأخذ منهم الأخبار وتترك أو تهاجم وتفتري على من يحاولون فتح عيونها على الحقائق، وهنا يصدق علي عزت بيغوفيتش حين يقول: "إنّ الدكتاتورية والجماهير السفيهة تمضيان يدا بيد حيث يتغذّى كلّ منهما على الآخر". إن أغضبك هذا الكلام انظر من حولك وسترى جحافل السفهاء تمهّد الطريق للمسيح الدجّال!
بعد الثورة التقنية في مجال الاتصال اعتقدت فئة من المتابعين أنّ زمن التضليل والتلاعب بالعقول ولّى لأنّ الرأي العام لن يبقى تحت رحمة وسائل الإعلام الثقيلة المملوكة عادة لأصحاب السلطة ورجال المال المقرّبين منها، لكن أتت حروب الجيل الخامس لتضعنا أمام خطورة الحروب المعلوماتية والحروب الهجينة التي تجمع بين كلّ أنواع الحرب حيث صار الضخّ المعلوماتي الهائل واحدًا من أعمدة أيّ حرب إن لم يكن مقدّمة لها، ولم يبق في الحقيقة مجتمع في العالم محصّن مئة بالمئة أمام هذا النوع من الحروب وإن كان التفوّق لمن يحوز على أدواته الكبرى، وكلّها في يد الغرب وتحت تصرّف حكوماته.
في بلداننا حيث تتشابه الأنظمة مع شعوبها في السطحية والعجز لا تجد الحكومات صعوبة كبيرة في تعليب التصوّرات وصناعة الأفكار الخادمة للسلطة بهدف كفالة التأييد الشعبي أو ضمان اللامبالاة والتجاهل بتعبير صاحب كتاب "المتلاعبون بالعقول"، وإذا كان السيناتور الأمريكي ستيوارت سيمنجتون قد زعم بأنّ حظ الجمهور العام من المعرفة في أمريكا أقل من معظم الناس في بقية بلدان العالم، كما ورد في الكتاب نفسه؛ فماذا نقول نحن سكّان البلدان التي تسيطر فيها الأنظمة على وسائل الاتصال الجماهيري ويتولّى أتباعها مأجورين وتطوّعاً مهمّة الدعاية الرخيصة والترويج للأكاذيب وبثّ الافتراءات في مختلف وسائط التواصل الاجتماعي!
إنّ مجتمعًا مثل مجتمعنا يعاني أفراده من العجز على التّجريد وفصل الأفكار عن أصحابها، ويقصرون عن تمثّل الحقائق خارج ما تبثّه أجهزة السلطة ولواحقها يحتاج إلى جهد واسع من التثقيف والتوعية لتحصينه ضدّ الأكاذيب، وليس هناك وسيلة أكثر نجاعة من تفكيك خطاب الخصوم وتعرية أساليبهم وأدواتهم والإشارة إليهم وتسميتهم بأسمائهم لتنبيه الجماهير الغافلة وتثوير عقولها حتّى تتحول من قطعان إلى جماهير بشرية، على أمل أن يرتقي جزء منها إلى مستوى أعلى قليلا يمكن من خلاله شقّ طريق صوب التغيير الشامل للمنظومة المتحكّمة في العقول والمصائر.
أمّا المتطوّعون لترويج خطاب التضليل، والمتزلّفون للحكام بتزييف وعي العامّة، فعلاجهم ما قرّره بيغوفيتش في مذكراته حين خطّ بمنتهى الوعي والحصافة هذه الكلمات: "ليس هناك دواء للصحفيين المستعدين للكذب في دولة ديمقراطية باستثناء رفع مستوى التعليم والثقافة العامة لدى الشعب، بحيث يستطيع الناس بأنفسهم تمييز الحقيقة من الكذب، ولكن هذا الأمر لا يمكن للسياسة تحقيقه، وإنما تحققه الثقافة فقط، وهذا العمل صعب ويستغرق الكثير من الوقت، ولكنه السبيل الوحيد، فإلى الآن لم يخترع أيّ شخص أيّ فكرة أفضل، والأكاذيب والمبالغات الصحفية نواتج حتمية لحرية الصحافة والإعلام، ويبدو أن أحدها لا يوجد دون وجود الآخر، إذا أردت القضاء على الأكاذيب فإنك ستقضي على الحرية، فالاثنان مرتبطان معا مثل النار والدخان". وإذا اجتمعت دعوة بيغوفيتش مع وصول رجال الصفوة إلى مراكز الحكم حينذاك يمكن أن تصبح وسائل الإعلام مخيّرة أو مجبرة في خدمة الحقّ والحقيقة، وتستطيع شعوبنا الوقوف في وجه حملات التضليل وصدّ الحروب الهجينة وتحويلها لمصلحتها، خلاف ذلك يبقى الحديث عن الأمن الملعوماتي والأمن الفكري أضحوكة أخرى يلهي بها الحاكم شعبه، ويظل الأخير سلكا ناقلا لتيار الأكاذيب والشعارات إلى حين.
45 تعليقات
فؤاد
٢٤ أبريل ٢٠٢٥سعيد شتوح
٢٤ أبريل ٢٠٢٥عبدالكريم
٢٤ أبريل ٢٠٢٥جنى
٢٤ أبريل ٢٠٢٥Djaid koribi
٢٤ أبريل ٢٠٢٥اميرة مصطفاوي
٢٤ أبريل ٢٠٢٥سمير دحماني
٢٤ أبريل ٢٠٢٥الشيخ الشيخ
٢٤ أبريل ٢٠٢٥مختار دباشي
٢٤ أبريل ٢٠٢٥Lissa
٢٤ أبريل ٢٠٢٥محمد سفيان
٢٤ أبريل ٢٠٢٥بن ساري علي
٢٤ أبريل ٢٠٢٥سمير
٢٤ أبريل ٢٠٢٥نصيرة سعيد
٢٤ أبريل ٢٠٢٥محمود زوبيري
٢٤ أبريل ٢٠٢٥فيصل الفصل
٢٤ أبريل ٢٠٢٥عبد الله
٢٤ أبريل ٢٠٢٥chennouf benafou
٢٤ أبريل ٢٠٢٥الاخضر بن بوزيد
٢٤ أبريل ٢٠٢٥أبو علي النائلي
٢٤ أبريل ٢٠٢٥مرابطي للقيس
٢٤ أبريل ٢٠٢٥سعاد طه
٢٤ أبريل ٢٠٢٥Zahra
٢٤ أبريل ٢٠٢٥سعد
٢٤ أبريل ٢٠٢٥نون ميم
٢٤ أبريل ٢٠٢٥مصطفى
٢٤ أبريل ٢٠٢٥حمو
٢٤ أبريل ٢٠٢٥Taharderrag
٢٤ أبريل ٢٠٢٥حكيم
٢٤ أبريل ٢٠٢٥رضوان.بو
٢٤ أبريل ٢٠٢٥aichaasekkiou@gmail.com
٢٤ أبريل ٢٠٢٥مهدي علوي
٢٤ أبريل ٢٠٢٥عبد الغفور
٢٥ أبريل ٢٠٢٥عبد الحق المدهامي
٢٥ أبريل ٢٠٢٥فطومة الوردة
٢٥ أبريل ٢٠٢٥فطومة الوردة
٢٥ أبريل ٢٠٢٥Bamourbaaziz
٢٥ أبريل ٢٠٢٥عبدالغفور
٢٥ أبريل ٢٠٢٥عمار جغبالة
٢٦ أبريل ٢٠٢٥Mabrouk Bennaadja
٢٦ أبريل ٢٠٢٥Fathma
٢٧ أبريل ٢٠٢٥sifo
٢٨ أبريل ٢٠٢٥حسن داي
٣ مايو ٢٠٢٥شكري بورزق
٦ مايو ٢٠٢٥أيمن
١٩ مايو ٢٠٢٥