أحمد الشرع: هل سيصبح سيّاف سوريا وبشيرها؟
في بعض الأحيان يخرج الطغيان من عباءته مؤمنا كمؤمن آل فرعون، وفي أحيان أخرى يطلع من عمامة الجهاديين رأس طاغية قد يكون أسوأ من الذين ثار ضدّهم، وفي قصص التاريخ حكايات كثيرة عن المرتكسين والمنتكسين والنّاكثين والذين نكصوا على أعقابهم، وفي أحاديث المتابعين لماجريات الأمورفي بلاد الشّام اشتقاقات وإسقاطات لتلك الأحداث على واقع اليوم، واتّهامات ومحاولات تبرئة، وبين النقيضين تحاول القلّة الوقوف على تلّة معزولة للحكم على الأحداث بإنصاف، وما أعزّه في زمن المزايدات والإسفاف.

أحمد الشرع على خطى البشير وسياف
بعد نصف عام من سقوط بشار الأسد، قرّرت الولايات المتحدة الأمريكية رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا في لقاء ثلاثي جمع الرئيس دونالد ترمب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس السوري أحمد الشرع، وإن شئت فقل على لسان الشرع قبل سنين: بين رأس الكفر والمرتدّ والمجاهد. وبلسان الأمريكي تقول: بين الديمقراطي والأمير المستنير والإرهابي المطلوب. المهم أنّه مشهد من خارج المألوف خلفه من التفاصيل ما يحتاج إلى تفسير لا أدّعي أنّي سأقدّمه في هذا المقال، إنّما ذكّرني بأحداث مشابهة أذكرها لا على سبيل اتباع ما تشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ولكنما ابتغاء ربط الأحداث ببعضها ومحاكمة المتشابهات إلى المحكمات، والعودة بالحادثات إلى أصولها كي لا نكون ممّن لا يعتبرون بقصص الذي خلوا من قبلهم.
ما الثّمن؟
بعد قرار رفع العقوبات مباشرة نشرت وكالة رويترز مجموعة من الشروط الأمريكية التي نقلها ترمب لأحمد الشرع من أجل تنفيذها مقابل تعليق العقوبات الاقتصادية "لمنح سوريا فرصة للنموّ"، وأوردت وكالات الأنباء ما يفيد بأنّ ترمب حثّ الشرع على الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية وتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني وطرد أفراد الفصائل الفلسطينية والمقاتلين الأجانب الذين جاؤوا لنصرة الثورة السورية من أرض الشام، بالإضافة إلى محاربة تنظيم الدولة والتصدّي للنفوذ الإيراني في المنطقة، وهي شروط لا يستطيع المرء أن يصفها بشيء غير أنّها إملاءات تجعل من سوريا نسخة أخرى من جارتها الأردن؛ أي دولة تحمي حدود الكيان الصهيوني وتحرص على ملاحقة أعدائه نيابة عن الجيش الصهيوني تماما كما تفعل أجهزة السلطة الفلسطينية العميلة في الضفة الغربية.
وإن لم يرد على لسان القيادة السورية الجديدة ما ينفي أو يؤكّد قبولها بتلك الشروط فإنّ العارفين بالسلوك الأمريكي يدركون جيّدا أنّ الحثّ والاقتراح في قاموسهم مرادف للأمر، وإذا علمنا أنّ الوسيط بين الاثنين رجل عرف بأنّه لا يرقب في مؤمن إلاّ ولا ذمّة، وأنّه عرّاب التطبيع ومشروع الديانة الإبراهيمية في العالم العربي سيكون من باب الحصافة إساءة الظنّ بالمجتمعين، وترقّب الإجراءات التي سيتّخذها الشرع في الأسابيع المقبلة لمعرفة الثمن الذي تمّ بمقابله رفع العقوبات حيث يستبعد أن يكون ذلك مقابل الجزية التي أخذها ترمب من ولي العهد السعودي ونظيره أمير قطر في رحلته الإقليمية لجمع الجباية.
إن يطردهم فقد فعلها أخ له من قبل
يستبعد بعض الناس أن يقدم أحمد الشرع على طرد المقاتلين الأجانب وأعضاء التنظيمات الفلسطينية من سوريا بداعي الماضي الجهادي والانتماء الإسلامي للرّجل، ويعتقد هؤلاء أنّ جهادية الجولاني ستحول بين أحمد الشرع وبين ترحيل المجاهدين وكأنّها أوّل مرّة يحدث ذلك في بلد عربي أو إسلامي على يد مجاهد متقاعد أو سياسي إسلامي يزاول مهنة الرئاسة بشرعية الثورة أو الانقلاب.
بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان اتخذ قادة المجاهدين العرب موقف الحياد من الخلافات التي نشأت بين الفصائل الأفغانية، ثمّ قرروا مغادرة أفغانستان حين رأوا الضغوط والمخاطر تزداد من كلّ الجهات، واختاروا التوجّه نحو السودان الذي كان يعيش في تلك الفترة من بداية التسعينات نشوة الحكم الإسلامي بعد نجاح الانقلاب الذي نفّذه عمر حسن البشير وزملاؤه من رفاق الشيخ حسن الترابي وتلاميذه تحت مسمى ثورة الإنقاذ الوطني. ذهب حينذاك مؤسس تنظيم القاعدة ومعاونيه وأعضاء تنظيمه إلى الخرطوم فاستقبلهم البشير بحفاوة مشهودة، وأغدق ابن لادن من جهته على السودان بالاستثمارات والمشاريع الكبرى باذلاً ماله وجهده من دون حساب لمؤازرة ما كان يظنّه مشروعا إسلاميا، فأنفق حسبما يتداول مقرّبوه ثروة طائلة لمساعدة الحكومة الإسلامية في مواجهة الحصار الاقتصادي المفروض عليها من دول العرب والعجم، ولم يدّخر جهدا في نقل معظم شركاته إلى هناك والاستثمار في الزراعة والأشغال العمومية وغيرهما حتّى كاد أن يكون رجل الأعمال الأجنبي الوحيد الذي كسر الحصار على السودان من دون خوف من الأنظمة التي ما فتئت تطلب رأسه، فما كان الجزاء؟
لم يدم الأمر طويلاً حتّى دارت في رؤوس حكام السودان الإسلاميين أفكار تشبه التي تروج هذه الأيام؛ الاضطرار والعجز عن مقاومة الضغوط وتهاوي اقتصاد الدولة وتضرّر الشعب من الحصار وهلمّ حججا حقيقية وأخرى مبالغ فيها، فتحوّل هؤلاء إلى أصوليين ينظّرون لفقه الواقع وقرّروا على حين غرّة طرد الجماعات الإسلامية من السودان وترحيلهم إلى دول أخرى مثل اليمن وأفغانستان آملين في رضا الغربيين ووكلائهم، وكان نصيب رجل الأعمال الذي أنفق أمواله لأجلهم رسالة شفوية يتمّ بموجبها ترحيله إلى جلال آباد في بلاد الأفغان قبل أن يستلم حقوقه من الحكومة، فغادر الشيخ المليونير إلى غير رجعة، ولم ترفع العقوبات عن السودان بل ازدادت حدّة مع حكومة بيل كلينتون في 1997، ولم ينج البشير من بطش خصومه على الرغم من كلّ التنازلات، ولم ينج السودان من الحصار الاقتصادي المستمر حتّى 2017، ولمّا رفع هذا الحصار كان قد فقد جنوبه وعلى وشك فقدان إقليم دارفور، أما البشير فقد ختم حياته بالانتقال من القصر إلى السجن على يد ضبّاطه لمّا انتفت الحاجة إليه، ومثلما اتخذ من طرد ابن لادن زلفى للغربيين، قدّمه ضباطه قربانا لهم بعد ربع قرن كامل من تاريخ فعلته، فكان جزاء نكران الجميل نكراناً. ومن يستنكر مقارنة البشير بالشرع عليه أن يتذكّر أن البشير في تلك الأيّام غير البشير في سنواته الأخيرة، فما رأوه في العقد الثاني من الألفية الجديدة هو ما سيكون عليه الشّرع بعد 20 سنة إذا واصل التنازلات، تلك هي المرآة فانظروها مستوية غير مقعّرة ولا محدّبة تباعد الأشياء وتتلاعب بالأنظار!
في السياق نفسه، يروي محفوظ ولد الوالد -المعروف باسم أبي حفص الموريتاني- مفتي تنظيم القاعدة سابقا قصة أخرى لأحد قادة الجهاد الأفغاني ممّن كان يضرب بهم المثل في الإخلاص والحرص على الدين؛ يقول أبو حفص في حوار مع تيسير علوني على قناة الجزيرة أنّ بعد انسحاب السوفيات وبدء الدول الكبرى محاولاتها لترتيب البيت الأفغاني، طُرحت فكرة إنشاء حكومة موسّعة يشارك فيها أفراد من خارج التنظيمات المسلّحة مثلما يحدث دائما كي لا ينفرد قادة المجاهدين بالسلطة، فصادف أن التقى بقائد الاتحاد الإسلامي عبد رب الرسول سيّاف فسأله عن موضوع الحكومة الموسّعة وإمكانية القبول بها فما كان من سيّاف إلا أن قال له: "لا يعقل بعد هذا الجهاد الطويل وهذه الآلام وهذه الدماء وهذه التضحيات أن نرضى ونقبل بأن يشارك المجاهدين غيرُهم في حكومة أفغانستان"، وأضاف: "نحن الأحناف عندنا أن الماء إذا أصابه قليل من النجاسة أفسده ولو لم يغيره، فكذلك حكومتنا لو كان فيها وزير واحد من غير المجاهدين لأفسدها". فانظر إلى هذه الكلمات الحازمة التي لا يمكن لك إلاّ أن تحترم صاحبها ولو كنت خصما له جزاء حسمه وحرصه على التشبّث بهدفه الذي دفع لأجله سنوات طويلة من عمره. لكن ما سيكون قولك إذا علمت أنّ هذا المقاتل العنيد الحريص على طهارة الجهاد مثل طهارة الماء سيتحوّل بعد عشر سنوات إلى شريك لما يعرف باسم تحالف الشمال بقيادة عبد الرشيد دوستم، ويقاتل جنبا إلى جنب مع عدوّه الشيوعي القديم ومع قوات حلف الناتو لإسقاط حكومة طالبان الإسلامية!
لم يكن سيّاف عميلا مزدوجا ولا خرّيجا من أقبية المخابرات مثلما يردّد الكسالى العاجزون عن فهم تقلّبات النفس البشرية ونوازعها، كما لم يكن عمر البشير علمانيا مندسّا بين صفوف الإسلاميين، لقد كان الأوّل مجاهدا تشهد على شراسته الجبال والوهاد، وكان الثاني تلميذا نجيبًا في مدرسة التيار الإسلامي ثم انتهى الحال بالأوّل حليفا لأعدائه القدامى وبالثاني مستبدّا يبيع من ساندوه بعرض من الدّنيا قليل، وليست التقلّبات حكرا عليهما فقد كان أحمد شاه مسعود شبيها لسيّاف، وكان ياسر عرفات شبيها للبشير، ومن نبش في صفحات التاريخ عرف واتّعظ، ومن اعتبر لا يمضي لحاكم صكّا على بياض.
لقد كان في قصص هؤلاء موعظة، والإشارات التي تصدر عن حكام دمشق في هذه الأيّام تشي بأنّ الشرع ورفاقه يسيرون في طريق سيّاف والبشير بالنظر إلى تشابه الخطاب وطغيان سردية المسكنة لتبرير التنازلات في المستقبل، وإن كانت الأخيرة مقبولة نسبيا في السياسة في زمن الاستضعاف إذا دعت الضرورة لذلك فإنّها تنحدر إلى مستوى الخيانة إذا كان من ضمنها التنكّر للمقاتلين الذين وفدوا لدعم السوريين في ثورتهم، وترحيل الفلسطينيين والتطبيع مع الكيان الصهيوني والتنازل عن الجولان واستقبال المهجّرين من غزة قسرا.
وإن كان من حاجة للتذكير بشيء فإنّ من الضروري تنبيه المتذاكين ممّن يروّجون لأسطورة خداع الأمريكيين من طرف الشرع إلى أنّ هؤلاء الذين يسيطرون على القصور الرئاسية والملكية في دولنا أجدر بأن يتلاعبوا بقائد سوريا الجديد وأعوانه وليس العكس، ومن يعدّد دراسات الأمريكيين التي خصّصوها للحركات الأسلامية سيدرك أنّهم أعلم بالإسلاميين من أنفسهم. كما يجدر لفت انتباه قراء الفنجان الذين يردّدون "قلنا لكم" ليظهروا في صورة العارفين بحقيقة أحمد الشرع قبل تولّيه السلطة إلى أنّ التخرّصات والظنون لا تساوي شيئا في معيار التحليل السياسي، وأنّ انتكاس القادة الجدد لا يعني بحال خطأ الثورة السورية التي يبدو أنّها في حاجة إلى من يعيد ضبط دفّتها، وأنّ الأسف على سقوط الحكم الطائفي تحت ذريعة سوء الإدارة الجديدة ومحاصرة ما يدعونه محور المقاومة مكشوف ولا يقوم به غير الذين ألفوا العيش تحت سيطرة الطغاة واستمرؤوا تحكّم الأقليات في مصائرهم.
أما الذين يظنّون أن التطبيع ينقذ البلدان المطبّعة من الانهيار، ويقي الحكّام من حركات التمرّد، ويحسن اقتصادات الدول، فلينظروا إلى حال السودان بعد إعلان التطبيع سنة 2020، هل أتى على الفريق عبد الفتاح البرهان حين من الدّهر كان فيه حاكما أوحدا كما أراد؟ إنّ الشرع لن يقدّم لأمراء الخليج أكثر مما قدّم البرهان، ولن يمالئهم أكثر مما مالأهم ثم ينقلبون عليه ولن يكون أحسن حالا من سابقيه، والشقيّ من اتّعظ بنفسه.
46 تعليقات
أحمد ابراهيم
١٥ مايو ٢٠٢٥كلثوم
١٥ مايو ٢٠٢٥يحي صديقي
١٥ مايو ٢٠٢٥مراد منصوري
١٥ مايو ٢٠٢٥أحمد فتحي
١٥ مايو ٢٠٢٥فطومة الوردة
١٥ مايو ٢٠٢٥مصطفى بوقبرين
١٥ مايو ٢٠٢٥يوسف سعيد زروقي
١٥ مايو ٢٠٢٥Noussaiba
١٥ مايو ٢٠٢٥رضوان.ب
١٥ مايو ٢٠٢٥Zoubir
١٥ مايو ٢٠٢٥Abderrahmen Saadi
١٥ مايو ٢٠٢٥طارق لواج
١٥ مايو ٢٠٢٥Aymen Bennoui
١٥ مايو ٢٠٢٥أحمد هدار
١٥ مايو ٢٠٢٥اسامة بن سعادة
١٥ مايو ٢٠٢٥reghdjamel@gmail.com
١٥ مايو ٢٠٢٥مختار دباشي
١٥ مايو ٢٠٢٥حمودة فيصل
١٥ مايو ٢٠٢٥سميرة خ
١٥ مايو ٢٠٢٥نعيمة لونيس
١٥ مايو ٢٠٢٥فارس
١٥ مايو ٢٠٢٥جمييييل
١٥ مايو ٢٠٢٥رضوان
١٥ مايو ٢٠٢٥الشيخ المهدي
١٥ مايو ٢٠٢٥عبد الواحد رحيم
١٥ مايو ٢٠٢٥أحمد رامي
١٥ مايو ٢٠٢٥أحمد
١٥ مايو ٢٠٢٥محمد طبال
١٥ مايو ٢٠٢٥محمود زوبيري
١٥ مايو ٢٠٢٥Dridi Wahid
١٥ مايو ٢٠٢٥المسعود بن سالم
١٦ مايو ٢٠٢٥مصطفاوي اميرة
١٦ مايو ٢٠٢٥آمال
١٦ مايو ٢٠٢٥مومن عوير
١٦ مايو ٢٠٢٥Amine lemdaoui
١٦ مايو ٢٠٢٥Fouad Beny
١٦ مايو ٢٠٢٥اكرم قناد
١٦ مايو ٢٠٢٥فطومة الوردة
١٦ مايو ٢٠٢٥شيبوط الزين
١٦ مايو ٢٠٢٥خليل
١٦ مايو ٢٠٢٥عز الدين
١٦ مايو ٢٠٢٥omaraksa
١٦ مايو ٢٠٢٥Slimane
١٦ مايو ٢٠٢٥محمد هواري
١٧ مايو ٢٠٢٥ع.خ
١٧ مايو ٢٠٢٥