في عشق لاجئة (5)
قصة قصيرة

إنّه يوم السبت، خاصمني النعاس في الليلة الماضية قضيتها متقلّبا في فراشي دون أن أغفو حتى مطلع الفجر، كمن وضع الملح في عينيّ كما تقول أمّي، لم استطع إغلاقهما.
لعينة تلك الليالي التي يجثم فيها الأرق عليّ بلا سبب، فلم أكن مهموما ولا متعبا ليلتها، ولم يكن هناك شيء يستحقّ السهر، مجرّد حالة تنتابني من حين إلى آخر لا يعلم سببها حتى الأطبّاء، بالمناسبة أنا لا أثق في كلام الأطباء ولا آخذ بنصائحهم ولا أذهب لديهم إلا في حالات نادرة، أنا أحترم نبلهم ولباقة أغلبهم لكنّي لا أطيق تهويلهم للأمور، قد تذهب إلى طبيب من أجل ألم بسيط في المعدة فيجري لك أشعة، ثم يبعث بك إلى مخبر لتحليل الدّم ثم يطلب منك القيام بفحص معمّق عند طبيب مختص، ويرسل نتائج التحليل إلى الخارج، وفي النهاية يخبرك أنّ جسدك سليم وأنّ معدتك تأثرت بالفلفل الحار الذي تناولته في وجبة الغداء.
هذا ليس موضوعنا لكن بما أنّي ذكرته سأخبركم أنّي ذهبت إلى أحد الأطباء ليجد لي حلّا للأرق، فأعطاني وصفة بعد خطبة طويلة مليئة بالنصائج والمواعظ الصحية، اكتشفت فيما بعد أنّه صرف لي دواء للحساسية فلعنته ولعنت الذين علّموه، ولله درّ جدّي عنترة إذ قال:
لو عرف الطبيب دواء داء لما قاسى الصداعا
***
ساعة هاتفي تشير إلى السابعة صباحا، ارتديث ملابسي بعد أن نفضت عنها الغبار الذي خلفته العاصفة، وخرجت برفقة حسان لنركب الحافلة التي ستأخذنا إلى وسط المدينة، كانت خطّتي جاهزة للتنفيذ، كل الترتيبات مُعدّة، وضعت مع حسان جميع الاحتمالات ووضعنا لكل عقبة محتملة حلّا واحدا على الأقل، إنّها أول وآخر فرصة للقاء فاطمة إن ضاعت اليوم فلا لقاء إلى الأبد، وحتما لن تضيع.
إلى مهرتي الأصيلة عزمت أن أشدّ الرحال، صورتها لا تفارق مخيّلتي، على مرمى رصاصة رشاش تقف في مكان ما، يتلاعب نسيم الأطلسي بخصلات شعرها فتتموّج يمنة ويسرة لتستقرّ على كتفيها كومة من جمال، رموش قُدّت من فتنة، فاطمُ تمشي بخيلاء الحسناء الواثقة من نفسها، مؤكد أنها مُنية أبناء القبيلة كلها.
ما أطول تلك اللحظات التي تسبق لقاء عشقيا حاسما، كيف لهذا القلب المتعب أن يقاوم دلال فاطمة، ومن أين لعاشق ساذج أن يقف في وجه مدّ أنثوي لا قبل له به؟
فتّاك ذاك الشعور الجارف حين توشك على لقاء أنثى باذخة الدلال، تعبق رقّة، تفيض حنّية، وهكذا هي فاطم، هيفاء بضّة، مهفهفة غضّة، وليست تلكم وحدها صفات فاطم، في وجهها صباحة، وفي جيدها ملاحة، ذات خدّ أسيل وخصر نحيل، إن أقبلت فلها غنج شادن، وإن أدبرت غزال فاتن، تراها كانت هكذا أم أنّها "عين الرضا عن كل عيب كليلة"، لا يهمّ كل ذلك الآن مادمت مسلوب اللبّ في حضرتها، متأجج العاطفة حين الغياب!
***
هنا يعتبر التفكير في الذهاب إلى مخيّمات اللاجئين وحده مغامرة فما بالك باقتحام المخيّم، أما مواعدة فاطمة وبين أبناء قبيلتها فهي نوع من الجنون.
ركبنا سيارة أجرة وطلبنا من السائق أن يقلّنا إلى المخيّمات وكالعادة طلب منّا مبلغا خياليا، إنه مثل التجّار هنا يرفعون قيمة السلع والخدمات المتدنّية إلى أعلى كلّما رأوا غريبا لاسيما أيام النزهات التي يخرج فيها أفراد الجيش، انتهازيون واستغلاليون وجشعون إلى حدّ لا يطاق هؤلاء الناس، بعد مساومة طويلة خفّض المبلغ إلى 1500 دينار، وانطلق بنا صوب الحدود.
كنّا نقبض أنفاسنا كلّما اقتربنا من حاجز أمني خشية إيقافنا ومنعنا من العبور، فالمنطقة نقطة حساسة من الناحية الأمنية، عبر هذه الكثبان تمرّ سيارات مهرّبي الحشيش والسجائر والألبسة وتجار السلاح، كل شيء قابل للبيع، بارونات التهريب وأباطرة السوق السوداء لا تثنيهم كمائن الجيش ولا الخسائر التي يتكبدونها في السلع والأرواح عن مواصلة إجرامهم، آلاف الأطنان من المخدرات وملايين اللترات من الوقود يتم حجزها وإتلافها يوميا دون أن يتوقّف الكر والفر بين الجيش والمهربين، إنّها لعبة السياسة والمصالح في منطقة تحكمها تجاذبات الجيوبوليتيك وصراع القوى الإقليمية، لهذا يحسبون عليك حركاتك وسكناتك كلّما ولّيت وجهك صوب الحدود.
قطعنا ما يقارب 25 كيلومترا دون أن نضطر لاستخراج أي وثيقة، كنت أقدّم نفسي بصفتي مراسلا صحفيا لإحدى الصحف الوطنية وأهِم باستخراج وثائقي فيسمح لنا الخفير بالمرور دون أن يتأكّد من ادّعائنا، كانت لعبة متقنة وممتعة في آن، غير أنّها تنطوي على مشاكل جمّة إن اكتشف أحد ما زيف وثائقنا، فقد زوّرنا وثيقة "تكليف بمهمة" لفائدة صحيفة معروفة باستعمال الماسح الضوئي ولم يتفطّن لنا أحد إلى حد الساعة حتى وصلنا إلى مدخل المخيّم.
***
خيم مترامية على مدّ البصر، سيارات المنظمات الدولية تجوب الأنحاء، ورايات الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها والجمعيات الحقوقية ومنظمات الإغاثة ترتفع فوق الخيم، اليونيسيف، اليونيسكو، وأطباء بلا حدود، وهيومن رايتس ووتش....
بحثنا عمّن يدلّنا عن طريقة لمقابلة اللاجئين لإنجاز روبورتاج حول التعليم هناك، انطلت الحيلة على الشيخ ولد مختار أحد أعيان قبيلة الركيبات الذي قدّم لنا شرحا مفصلا عن أوضاع الصحراويين في جلسة ودّية لم تخل من أباريق الشاي والحلويات، فخيمة الشيخ ولد مختار بمثابة القصر مقارنة بباقي الخيم، هي قاعة الاستقبال وقاعة الاجتماعات ومقرّ الإدارة ومجلس شيوخ القبائل حيث تدار النقاشات وتحلّ المشاكل التي تنشب بين أبناء المخيّم، ويعقد قران الشباب والشابات حسب ما تقتضيه التقاليد.
عندما بدأنا جولتنا في المخيّم برفقة الشيخ لم نشأ إيقاظ شكوك أحد، لابدّ أن نلعب أدوارنا كما هي، أخرج حسان ورقة وقلما وبدأ يدوّن ما يقوله لنا الأطفال والعجائز، شكاوى وتذمّر ومناشدات لا تنتهي، وحسان يكتب ويمسح ويسأل بعد أن انسجم مع دوره حتى نسي أنّ ما نقوم به تمثيلية ليس إلّا، والشيخ ولد مختار لا يملّ منّا ومن أسئلتنا، خاب أملي في مغادرته إذ بدا لي عازما على مرافقتنا طيلة مكوثنا هناك، عجيب هذا الرجل لا يتبرّم ولا يسأم، يجول ببصره حولنا ويراقب الرائح والغادي ويحدّثنا بالتفصيل عن كلّ شيء، كان حسان يحاوره فيما كنت غارقا في تخيّلاتي، يؤزّني الشوق أزّا للتخلّص من الشيخ وتدفعني اللهفة إلى التملّص منه بسرعة.
وصلنا إلى مجموعة خيم مكتظّة فاغتنمت الفرصة للتهرّب من الشيخ، انعطفت خلف إحدى الخيم وأشرت إلى حسان بيدي أن دونك وذاك الشيخ حتى أعود، سرت منفردا بضع خطوات وأعين الأطفال والعجائز تطاردني، لمحت صبيّة في 16 تقريبا تقلّب نظرهاّ باستغراب وكأنّها تودّ معرفة ما يريد هذا الغريب الذي اقتحم سكون المخيّم، يجب أن أستغلّ هذا لفائدتي.
يقول المثل: "اضربوا النساء بالنساء" وعلى منواله أقول: "تبلّغوا إلى النساء بالنّساء"، اقتربت من الصبيّة ودون انتظار طلبت منها أن تقودني إلى فاطمة آغ أحمد الركيبية، ارتبكت في البداية وتردّدت ثم هرولت إلى خيمتها وبسرعة عادت تحمل إليّ الخبر اليقين، تبعتها دون أن أدري إلى أين تودّ اقتيادي، لم أفكّر لحظتها في شيء، كنت مخدّرا بلهفة اللقاء، أتنزّى كمن يمشي على الجمر ولم أستفق إلا في مدخل خيمة صغيرة والصبيّة تشير إليّ بالانتظار، دخلت ثم عادت راجعة من حيث أتينا دون أن تنبس بشفة.
وقفت أتابعها بنظري بعد أن ألجمت الدهشة لساني عن سؤالها، تجمّد جسدي للحظات لا أعرف ما أفعل، لم أستفق إلّا ويد تمسك بذراعي بلطف وتجرّني داخل الخيمة، إنّها هي، أخيرا ها هي ذي مهرتي العربية لا يفصلني عنها فاصل، ترمقني بلحظها الفاتر بعد أن تكومت على طرف الحصير وجلست على طرفه الآخر، ماذا دهاك أيّها المجنون؟ لماذا أتيت إلى هنا؟
تسأل فاطمة بعد أن أماطت طرف الخمار عن وجهها وألقته على كتفيها، فانبرى شعرها الأسود مسدولا على الكتفين، لأوّل مرّة أراها سافرة، سمراء صافية البشرة، زهرية الخدّين كأنّ وردا نبت فيهما، تزيّن شامة سوداء نحرها الطويل، زادها الخجل حسنا إلى حسنها:
يزداد توريد خدّيها إذا لُحظت
كما يزيد نبات الأرض بالمطر
فالورد وجنتها والخمر ريقتها
وضوء بهجتها أضوا من القمر
سكتت فاطمة ولم أجبها عن أسئلتها المتواترة، عبارة واحدة نطقتها ولم أزد، فلا الوقت يكفي ولا عيون الرقباء تزيغ عنّا ولو اختفينا داخل الخيمة، كمن يلقي بجبل عن كاهله، مثلما يعترف كاثوليكي بذنبه في حضرة قسّيس رحت أعترف بالذنب الجلل: "أحبّك يا فاطمة"....
جملة من فعل وحرف نداء وفاطمة، كانت كافية لتختصر الحكاية كلّها، ولتحطّم فؤادي بعد لحيظات.
أشاحت بوجهها عنًي كي لا تلتقي عيني بعينها، لوهلة ظننت الخجل أخرصها، خمّنت أنّها لن تنطق بكلمة الحبّ التي أنتظرها، ككلّ العذارى تخجل، ومثل كلّ الإناث تعاند وتكابر ولا تعترف، لكن...
لم تكن فاطمة كذلك، استجمعت قواها ونظرت إليّ ملء حدقتيها، ابتسمت لآخر مرّة، ابتسامة الأسى والمرارة أعرفها، هكذا إذن...
استدارت نصف دورة إلى الخلف، وبصوت متهدّج أطلقت مارد الخيبة من قمقمه: " أنا مخطوبة، والخميس المقبل موعد زفافي... أرجوك سامحني لم أكن أدري أنّ هذا سيحصل".
كمن دسّ نصلا مسموما بصدري تلقّفت عباراتها، شيء من البرود اجتاح مفاصلي، تجمّدت مشاعري دفعة واحدة، انعقد لساني فجأة، ضاع كلّ شيء!
بكلّ ما أوتيت من كبرياء سحبت طرف الخيمة، وخرجت أجرّ قدميّ مبتعدا....
الآن فقط انتبهت إلى ضجيج أطفال المخيّم وهم يلعبون الكرة، همهمات النسوة داخل الخيم، وصفير الرياح، وكثير من الفراغ.
شكرت الشيخ ولد مختار على كرم الاستقبال ووعدته كاذبا بزيارة أخرى، رافقنا إلى مخرج المخيّم ثم افترقنا.
إنّها نهاية الحلم، في هذه الخرابة لا ينبت شيء اسمه الحب، الوباء وحده يصنع حاضرنا، وبحجم الحلم تكبر الخيبة...
هنا نمشي جثامين تنتظر ساعة الدّفن، مات فينا كلّ شيء وبقيت مواجعنا تكابر!
2 تعليقات
Islam
٣ نوفمبر ٢٠٢٤Bel1900
١٠ ديسمبر ٢٠٢٤