في عشق لاجئة (4)

قصة قصيرة


وهو آت على مسافة خطوات حاولت تخمين ما يحمله من أنباء، كان حسان يتمشى ببطء كعادته متعمّدا إطالة مسلسل التشويق، مؤكد أنّه عانى طويلا لإقناع الجندي سليمان بمساعدتنا، فهذا الأخير عنيد ومتقلّب المزاج بشكل لا يطاق.

لمّا وقف أمامي كنت قد استنفدت رصيدي من الصبر، لم أك مستعدّا لسماع مقدماته السمجة، حسان مولع بالتفاصيل والشروحات المملة عكسي تماما، حيث لا أطيق قراءة الهوامش في الكتب ولا سماع التفاصيل في الحكايا والنقاشات، الشيطان يسكن التفاصيل كما يقول الفرنسيون وأنا أسكن خرابة موبوءة، وشيطاني يسكنني وكلانا نعشق الاختصار في الحديث، وأظنّ هذا أحد أسباب فشلي في العلاقات العاطفية، فأغلب النساء يهذرن بكثرة ويغرقنني في تفاصيل متشعبة تجعلني أنام قبل أن ينهين الحديث إن كنّ معي، أو أرد عليهن برسالة من كلمة واحدة إن كنّا نتراسل كثيرا ما تكون  "أوك" دون أن أقرأ حتى ما كتبن، لهذا يقلن أني متعجرف وعديم ذوق وأقول أنهن سخيفات ومثيرات للقرف، ولا نصل إلى نتيجة دوما، طبعا أنا لا أعادي النساء ولا ألومهنّ نظرا إلى كونهنّ كائنات رقيقة لطيفة، ألوم نفسي لأنّي كثير النّقد لهنّ ولأنّي كما يصفنني ممتلئ بالغرور كما أنّي انتقائي في خياراتي العاطفية وأمارس تمييزا رهيبا، عموما هذا ليس مهمّا الآن مادمت قد انتقيت فاطمة وها أنا مفتون بها.

 جلس حسان وأشعل سجارة "الريم" ونفث دخانها، وظلّ يدنّق في وجهي عساه يثير غضبي مثلما ألف، غير أنّي خيبت ظنّه، لم أسأله حتى نطق هو:

"سليمان يقول أنّ إيجاد فاطمة شبه مستحيل، حالنا كم يبحث عن " إبرة في طريق السوق" كما يقول المثل، لقد وعدني بالمساعدة بعدما أغريته بالتوسّط له لدى القائد حتى يأخذ إجازة في المقابل، سيطلب من حورية البحر البحث عنها وبعدها سنرى".

لم يكن الصيد ثمينا مع سليمان هذا، المسألة تعقّدت أكثر وحلم لقاء فاطمة يكاد يتلاشى، أيّ حظ هذا الذي جعلني أقع في حب فتاة لا عنوان لها؟

  مرّت الأيام رتيبة في انتظار خبر من سليمان موزعة بين العمل النهاري والمناوبة الليلية، أعمال مكررة لا متعة فيها، تتخللّها بعض المناوشات بين أفراد المعسكر لأسباب معظمها تافهة، يلعب الفراغ بعقول الجنود ويزيده الطقس الحار والعواصف الرملية كآبة فيتشاجرون للفت الانتباه والترويح عن أنفسهم.

بدأت أتناسى فاطمة وأقنع نفسي بأنّ ما أقوم به صبوة من صبوات المراهقين، كنت أكرر هذا بيني وبين نفسي في النهار ثم أتراجع كلّما آويت إلى فراشي ليلا، يستبدّ بي التفكير في فاطمة، وتجتاحني أعاصير الشوق حتى توشك على اقتلاع فؤادي من صدري، أشعر بغصّة تسدّ حلقي فألجأ إلى الكتابة، أكتب وأمحو ما كتبته، كنت أريد قتلها بداخلي، أردت إغراقها في الحبر لأتخلّص منها لكن هيهات، من نحبّهم لا يموتون بداخلنا، يختبئون في زوايا مظلمة إن اقتضت الحاجة ثم يبعثون مرّة أخرى، لا نستطيع التخلّص منهم مادمنا نحبّهم مهما فعلنا، الموت فقط من يمنحنا الخلاص.

بعد أسبوع من الانتظار أطلّ سليمان ليسوق إليّ آخر ما توصّل إليه بشأن فاطمة، في هذه المرّة زارني بالغرفة، طرق الباب ودخل قبل أن أطلب منه ذلك، ما أغرب هذا الرجل، يمارس ما يشاء بعفوية تكاد تجني عليه أحيانا، لا يعرف للقوانين والأعراف سبيلا، لا يوجد مصطلح اللباقة في قاموسه، ومرة أخرى فيم يهمني ذلك؟

حين خرج سليمان بعد ربع ساعة، كنت كتبت بمخيلتي بطاقة فنية عن فاطمة كما يفعل موظّفو الحالة المدنية، "اسمها فاطمة آغ أحمد، من قبيلة الركيبات، وهي قبيلة عربية أصيلة، تنحدر من منطقة أركشاش قرب سواحل المحيط الاطلسي، أبوها في السجن وأمها قعيدة الفراش تعاني من شلل نصفي"، هكذا باختصار اختزلت ما أخبرني به سليمان الذي وعدني بالجديد فيما يخص تحركات فاطمة، إنّها لا تخرج من المخيّم إلا للضرورة القصوى، ليست قوانين المخيّم وحدها التي تجبرها على ذلك، لكنّها قيود القبيلة أيضا، هناك يمنع على العذراء الخروج بمفردها حتى تتزوّج وفاطمة صبيّة غير متزوجة، والدها غائب لذا هي في ذمة أعيان الأسرة الكبيرة الضاربة قناعاتهم في عمق التقاليد، وما أدراك ما تقاليد القبيلة!

ما عاد هناك مجال للتردّد الآن بعد أن عرفت معلومات قيمة عن فاطمة، حتى إن كانت شحيحة ولا تشبع نهمي إلاّ أنّها كافية لخوض معركة الوصول إلى مهرتي الأصيلة المنزوية في خيمة ما على بعد 7 أميال بالتقريب من معسكرنا.

إن هبّت الريح تلمّست في نسماتها عطر فاطمة، وإن نظرت بطرفي يمّمت وجهي صوب المخيّم، يتقاذفني الشوق والحنين في انتظار نهاية الأسبوع لأتمكن من الخروج وتنفيذ ما عزمت عليه....

سأقتحم المخيّم لا محالة، وسأجالس فاطمة في خيمتها وبين رجال القبيلة، لا تفكّروا بالمخاطر الآن، دعوا الأمر لي!

تعليقات
اترك تعليق