في عشق لاجئة (3)

قصة قصيرة


حين خرجت من السوق كانت الساعة قد جاوزت منتصف النهار، وقد "أضعت في عرض الصحراء لاجئتي"، اتصلت بصديقي لتناول الغداء ومن ثم العودة إلى المعسكر.

في الطريق قصصت عليه تفاصيل لقائي بفاطمة، وطفقنا نفكّر في طريقة لإيجادها مرة أخرى، لم أكن مستعدّا حينها للتنازل عن هدفي مهما كانت العراقيل والمصاعب، فأنا مقتنع حدّ الإيمان بأن عمر الإنسان أقصر من أن يضيّعه في الانتظار والتسويف، وأثمن من أن يبدّد أيامه في تجنّب العقبات والاستسلام لمشاعر الخوف والتردّد، عيون فاطمة وحدها تستحق أن تنشب الحروب لأجلها فكيف أتنازل وأنا المفتون بالجمال العربي عن مهرتي الأصيلة بعد أن أوشكت على ترويضها في نصف ساعة من لقاء سريع؟

لم تكن فكرة غير لقاء جديد لتطرح عليّ لحظتها، وأنا السكران بخيال فاطمة، المهزوم أمام رموشها، أنا الثائر على كل شيء لم أكن لأنسى في لحظة جنونية كتلك أهم قناعاتي في هذا الصدد.

لطالما اقتنعت أن الثورة من أجل الوطن واجب، لكنّها من أجل أنثى فاتنة أوجب، وحين تجتمع الأنثى مع الوطن تصبح الثورة لأجلهما معركة وجود تتوقف على نتيجتها حياة الانسان.

حدثتني نفسي بضرورة البحث عن فاطمة بكل الطرق والوسائل، فلتكن مغامرة مباركة أيتها النفس التي لم تنفطم عن الحب:

والنفس كالطفل إن تمهله شب على

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

وكيف لنفس توّاقه لحبّ أسطوري أن تنفطم ولو كانت المعشوقة فاطمُ، البضّة الهيفاء، ويح قلب هواها فتخلّلت شرايينه بنصف ضحكة ودمعتين!

ساءني أن أدخل المعسكر دون أن أجد لا أنا ولا صديقي مدخلا جيدا يسمح بتحقيق أمل اللقاء المنشود، آويت إلى فراشي مفكّرا أصنع ألف احتمال في مخيّلتي ثم أمسح كل شيء من جديد حتى غلبني النعاس وغبت في أحلامي إلى أن أيقظني صديقي لتناول وجبة العشاء البائسة، طبق المعكرونة المالحة والخبز اليابس مضغتهما ممزوجتين بطعم الحيرة والتطلع إلى حلّ يرضي شغف المغامرة بداخلي.

بعد الغروب قادتنا الخطوات إلى تحت شجرة طلح تتوسط المعسكر، وهي نوع الشجر الوحيد الموجود في صحراء تندوف، أسمّيها "الشجرة المظلة" بسبب جذعها الذي يشبه ساق المظلة، ترتفع فوقه أغصان متلاحمة غير كثيفة مثل أعلى المظلةّ، ورقها مدبّب وحاد مثل الإبر وهو ما يجعلها تقاوم ظروف الطبيعة الجافة والطقس الحار، هذا ما أتذكره من أيام دراسة الجغرافيا إذ كنّا نعرف نبات الصحراء بهذه المواصفات، ونميّز السهوب بالشيح والحلفاء، أما السهول فكانت في أذهاننا ونحن أطفالا جنّات تنبت طيّب الثمر.

كانت بداية ليلة مقمرة هادئة، نسيم الأطلسي يداعب وجوه الجنود المتعبين الموزعين بين قاعة النادي والمراقد حيث يرتفع صوت الموسيقى من جهة، وصوت المعلق الرياضي من ناحية النادي، أما النواحي المعتمة ففي كل واحدة منها عاشق ألصق سماعات الهاتف بأذنيه وغاب في همس رقيق مع حبيبته المنزوية حتما في ركن قصيّ ببيت والديها تتعاطى جرعات حبّ منقول عبر الذبذبات مادام الواقع يحول بين اثنين قنعا بواقعهما واقتنعا بقطع المسافة اللعينة بسرعة الصوت.

من حين لآخر يمرّ جندي بالقرب يلقي التحيّة ويمضي، كلمات روتينية دأب المجندون على تكرارها دون زيادة ولا نقصان (صحيت يا القايد، لاباس آ حضرات... آ الشاف، وهكذا) لا اختلاط بين الرتب المختلفة، كلّ يمارس حياته مع أقرانه من نفس الرتبة، وما لبث أن اقترب شبح شاب يتمايل ذات اليمين وذات الشمال كالسكران، ولم يكن مخمورا بل كان يرقص على أنغام أغنية خفيفة أطلق لها العنان من مكبرات صوت هاتفه دون أن ينتبه لوجودنا:

-سليمان.... ناديته.

بسرعة أوقف مشغل الصوت، واستدار نحونا، اقترب خطوتين، أدى التحية وبقي مسمّرا مكانه.

-أرواح يا سي سليمان، راك معرّس وحدك!

-اسمحلي يا القايد راك تعرف الروتين... عيينا قلنا نزهاو شوية.

-معليش ريّح... علابالي بخرايبك مش أنتت لي يعييك الروتين يا وحد العفريت.

من لا يعرف سليمان في المعسكر، مجنون الكتيبة المرح، ثرثار بحلاوة الحديث، ومشاغب كثير الغياب والنوم نهارا والسهر ليلا، الجميع يعلم أنّه كسول في الحالات العادية يتنصّل من أعمال النظافة اليومية، ويتهرّب من العمل الروتيني، "كرهنا كل يوم نفس الخدمة، نفس العباد، نفس الهدرة"، هكذا يردّ على رؤسائه حين يلومونه على لامبالاته، في السابق كانوا يعاقبونه لكنّهم لم يعودوا يفعلون اليوم، تعبوا هم ولم يتعب سليمان ولم يتب.

ليس هذا ما كان يعنيني حين ناديت سليمان، ولم يكن سهلا أن أفتح معه الموضوع الذي يشغلني نظرا إلى الاختلاف الذي ذكرته آنفا، فإن كان كل زملاء سليمان بل حتى رؤساؤه يعلمون بقصّة حبًه لفتاة صحراوية إلاّ أن أحدا منهم لم يجرؤ على محادثته في الموضوع، كلمة السرّ عند هؤلاء " حورية البحر"، حين يتعلّق الأمر بسليمان فإنّ هذا الاسم يصبح قضيّة مقدّسة، فهو الذي سمّى حبيبته الصحراوية بهذا الاسم ولا أحد غيره يعرف اسمها الحقيقي، حتى أن بعضهم يعتقد أنّ حورية البحر شخصية من نسج خياله لا وجود لها في الواقع، عدا المقرّبين منه فإنّهم يصدّقون سليمان ويحترمون مشاعر الحب التي يكنّها لحوريته، وهكذا كان سليمان هديّة من السماء في تلك الليلة، وسيغدو أملي الوحيد للوصول إلى فاطمة.

دون انتظار فاجأت سليمان بما لم يكن ينتظر:

-واش أحوال حورية البحر يا روميو؟

كان سؤالا غير متوقّع بالنسبة إليه، لأنّ العادة جرت ألا يتحدث  ضابط مع جنوده في مواضيع مماثلة، كلّ الحديث عبارة عن أوامر وتعليمات، لا مكان للعواطف في العمل، كان ذلك بمثابة القانون المتفق عليه ضمنيا من جميع الأطراف، وكنت مهووسا باختراق القوانين كالعادة.

تردّد سليمان في الإجابة فلم أدع له مجالا للتهرب:

- اهدر برك ما تخافش ما راحش نذبحك لا أنت لا حورية نتاعك.

- واش نقلك يا القايد؟ رانا لاباس كي الناس، مرة نتضاربو ومرة نتصالحو.

- اييييه يا سيدي، لكن عندي سؤال!

- واش هو يا القايد؟

- علاه سميتها "حورية البحر"، يا أخي وين شفت البحر هنا، سمّها حورية الرمل، حورية المخيّم، حورية تندوف، كي تكثر حورية المحيط الأطلسي، على الأقل اسم يلائم الواقع.

كانت مزحة سمجة منّي بصراحة، لم أحسب حسابا لمشاعره حين قلتها، نسيت أن العشاق يقدّسون الأنثى التي يحبّونها، ويعتبرون أي مساس بها مساسا بكرامتهم.

دون أن يستأذن منّا، قفز سليمان منتصبا على قدميه بحركة سريعة كمن لسعته عقرب:

- اسمحلي يا حضرات راني خدّام الليلة.

لم يكن لديه عمل، هو يعلم ذلك وأنا أيضا، وصديقي حسان كذلك، وقبل أن يبتعد طلبت من حسان اللحاق به، لم يكن الوضع يسمح بالتفريط في المفتاح الوحيد للوصول إلى فاطمة.

- الحقه يا حسان، شوف لنا المصيبة هذا يسقسي لالا حورية عن فاطمة، دبر راسك معاه.

شغلت الموسيقى وغصت في أحلامي مع صوت جورج  وهو يغنّي " غلابى في الحب غلابى"، غلبت علينا مشاعرنا فغالبنا الظروف لنقاوم الوباء، ولنواجه بالحب الخراب، فاطمة وردة في زمن الغبار لن أدع البؤس يقطفها، هكذا حدثت نفسي وأنا أنتظر الخبر السعيد من حسان.

ها هو شبح حسان يقترب، ومع كل خطوة أزداد توقا إلى إلى النبأ الموعود!

تعليقات
اترك تعليق