في عشق لاجئة (2)
قصة قصيرة

تابعت فاطمة وهي تبتعد حتى غابت عن نظري، انحرفتُ نحو خيمة أشهر باعة الشاي في سوق البوليزاريو، طلبت كوبا وانحشرت مقرفصا في طرف الخيمة أحتمي من عجاج العاصفة الرملية وعِثْير أرجل رواد السوق، أتأمّل فقاعات الشاي الصحراوي المتلألئة كدموع فاطمة، أيّ حزن هذا الذي اختزلته تلك العيون؟ وأيّ مأساة تسكن جوانح العذراء العشرينية اللاجئة؟
غير بعيد عن خيمة الشاي وعن تندوف تصطف آلاف الخيام المنصوبة على طول الحدود بين الجزائر والصحراء الغربية، في كل خيمة مأساة كمأساة فاطمة، أجساد الصبية والعجائز متكدسة تنتظر معونات الأمم المتحدة، وعيون الفتية مشدودة صوب الضفة الأخرى بعد أن نحرت المفاوضات المكرّرة أمل العودة إلى الأرض، في ذينيك المخيّمات ترتسم كل معاني البؤس، مئات الآلاف من الأنفس تتعذب كل لحظة دون سبب وجيه، وحدها الأنظمة الغبية والساسة الجشعين ومصالح المحتلّ السابق تتحالف لتصنع فسيفساء الأسى بالدمع والدم، كل هؤلاء شرّدوا شعبا لا ذنب له سوى تشبّثه بأرضه وتطلّعه إلى العيش تحت شمس الحرية لا تحت سقف الخيام.
ذهبت فاطمة منذ ساعة وصورتها لم تبارح مخيّلتي، كيف سيكون لقائي بفاطمة لو كان الوضع غير الوضع، أين كنّا سنلتقي لو لم تكن لاجئة مشرّدة؟ هل كانت ستبكي بتلك الحسرة لو كان للقدر رأي آخر غير الذي آلت إليه الأوضاع؟
كانت نزوة ملك مملوء الخياشيم بالغرور والدعوى قرر أن يزحف بجيوشه على شعب الصحراء ، وإرادة قوى تريد أن تجعل لكل قبيلة دولة وفي كل دولة حركة وداخل كل حركة طرفان خصيمان وفي كل طرف تيارات تتبارى بالدسيسة والخداع وضرب الحزام وما تحته، كل ذلك كي تُستعبد الشعوب وتُنهب الثروات، ويقتسم أصحاب العروش الدراهم والقروش بالسويّة بينهم وبين محتلّ الأمس، ولكلّ حاكم أجره بمقدار خيبات شعبه، وبحجم التواطؤ وفروض الطاعة لعدوًه ونوافلها.
إذن، كانت الساقية الحمراء ووادي الذهب هما ذروة سنام القضية، وكانت الجيوبوليتيك بوصلة توجيه الصراع، فمنافذ البحار والمحيطات عماد القوّة، ومنفذ الأطلسي يغري كل ذي سلطان بالغيّ ويغري كل دولة بالسعي لحجز موطئ قدم على حافة المحيط، وكذلك تاريخ الدول ومن خلالها مصائر الشعوب لا تُدرس إلا على خرائط الجغرافيا، وهكذا هي الصحراء الغربية منذ أشّر قلم سايكس على خريطتها!
شعب الصحراء على مرمى حجر هناك يمضغ خيبته، غير بعيد عنه يجلس ملك آخر خلف والده ليلتذّ ببكاء الثكالى وصراخ المهجّرين، بعد مئات الأميال على الجانب الشرقي يجلس حاكم آخر يساوم بملفّ القضية هو أيضا، غربية أو مغربية لا يهمّ، المهمّ أنّها صحراء لا تروي العطشان ولا يرتوي الحكام من شرب دم أهلها، غربية أو مغربية لا يهمّ، الاختلاف في حرف الميم فقط، والميم موت ومأتم، الميم مأثم ملك مستبدّ، الميم مأساة فاطمة والأخريات....
للقصة بقيّة ولوجه فاطمة البقاء، عادت فاطمة إلى المخيّم ولازلت مهموما بهمّها، هل سأجد فاطمة مرة أخرى؟ لست أدري.
تعليقات