في عشق لاجئة (1)
قصة قصيرة

التقيتها صدفة دون موعد مسبق، حدث ذلك بسبب صديقي العاصمي كثير الثرثرة الذي لطالما حدثني عن جمال اللاجئات الصحراويات بعد أن قابل إحداهن في الحافلة بين بشار وتندوف.
كنّ كثيرات لم ألتفت لهنّ في البداية لأنّي كنت أضعف من أن أحدّق في فتاة عابرة بسبب طول السهر والإرهاق الذي ما فتئ يرفس جسدي المتعب منذ وطئت هذه المنطقة الحدودية، غير أنّي ألفيت عيناي مثبّتان على شفافها وهي تنفرج عن ابتسامة عذبة، كنت مأخوذا باللحظة دون وعي منّي، لحد الساعة لا أذكر كيف انتبهت إليها ولا كيف دبّ النشاط بداخلي على حين غرّة، لم تمض أكثر من دقيقتين حتى كنت واقفا قبالتها في زاوية معزولة خلف الخيام المنصوبة في سوق "البوليزاريو".
لم يحدث أن رغبت بمطاردة أنثى في الشارع، ولم يكن يستهويني الأمر بتاتا، بل إني لا أبالغ إن قلت أني أحتقر هؤلاء المتسكعين الذين يطاردون الفتيات العابرات في الشوارع، ويعاكسونهنّ للحصول على رقم هاتف قد يكون خاطئا حتىّ، بيد أنّي وقعت فيما كنت أتّقي هذه المرّة، لست أدري أيّ شيطان تلبّسني في تلك اللحظة لأتجرّأ على محادثة أنثى لا أعرف عنها سوى أنّها لاجئة من الصحراء الغربية، تقيم حتما في المخيّمات المحاذية لمعسكرنا، قد تكون طالبة أو أمّية لم تجتز باب المدرسة، لكنً شيئا ما يجذبني إلى هذه السمراء الأنيقة على بساطة ملبسها وتواضعه.
كانت ترتدي رداء تقليديا مزركشا يميل لونه إلى الأصفر كعادة النساء في موريتانيا والصحراء الغربية والتارقيات عندنا، تديره على جسدها الرشيق بمهارة، أوقفتها بلطف طالبا أن نتحدّث، لم تتبس بكلمة ولم تنتبه أيً من رفيقاتها إلى الموقف، كأنّها كانت تنتظر منّي إشارة بالحركة أحنت رأسها وتقدّمت خطوات إلى الأمام لتختبئ كلّيا خلف خيمة كبيرة، ثم توقًفت ورفعت عينيها بهدوء، عينان عسليتان واسعتان تزيّنهما أهداب طويلة زادهما الكحل فتنة، خمّنت أنّه إثمد طبيعي كالذي كانت تستعمله جدّتي، يرتفع فوقهما حاجبان مقوّسان لم يمسّها الملقط، ولم تعبث أدوات التجميل العصرية برسمهما.
كل تفاصيل هذه الفتاة طبيعية، لا مساحيق على الوجه الطفولي، ولا أحمرا على الشفاه الياقوتية، كم كانت ساحرة في براءة ملامحها وكم كنت مخدّرا بسحر نظرتها، للحظات ظللت أنّي فقدت القدرة على النطق في حضرتها، بقيت مشدوها لا أتفوّه بكلمة ولا تفعل هي، وكأنّنا تواطأنا على الصمت... وأرخى الخجل سدوله علينا فوقفنا مسمّرين، كمن شدّت قدماه إلى حواذق الخيمة التي تسترنا!
لم أعرفها بنفسي، ولم أتذكّر حتى سبب ملاحقتها ولا الهدف من الحديث معها، ومتى كان للإعجاب أسباب؟
دون مقدّمات وجدت نفسي أتغزّل بها كما لم أفعل مع أنثى من قبل، لا أعرف من أين أتيت بعيون الشعر وبقصص الحبّ التي تدفقت على لساني، وفي دقائق معدودة فتحنا عشرات المواضيع في الأدب والفكر والسياسة، هذه الأخيرة التي قادتها إلى المخيّمات بعيدا عن الأرض التي ولدت فيها.
لا أذكر كيف فتحنا موضوع اللجوء، ومن أين ولجت لأتطفّل على تفاصيل حياتها، حدثتني عن والدها الذي نزح من قرية نائية بعد المسيرة الخضراء في السبعينات، وعن انقطاع أخباره منذ اعتقلته قوات الأمن الملكية قبل 12 سنة حين دخل المناطق المحتلّة من أجل زيارة أقاربه وتصادف وجوده مع مسيرة للصحراويين المندّدين باعتقال المناضلة أميناتو حيدر، وعن مرارة الشوق إليه، وعن وجع اليتم الذي يقطّع أوصالها.
تكلمت بلهجة صحراوية موغلة في البداوة بإيقاع سريع، حشرج صوتها عدّة مرّات وهي تصف حياة الشقاء في المخيّم، ابتسمت بأسى وهي تحدّثني عن خصال أبيها المعتقل... وفجأة انفجرت باكية.
انهارت دفعة واحدة، واختلط صوتها الطفولي بغصّة الوجع، وجرت دموعها وديانا على خدّيها، كانت لحظتها تحكي لي عن أمّها المصابة بشلل نصفي على إثر جلطة دموية أصابتها قبل سنتين بعدما بلغها خبر اغتيال زوجها في السجن تبيّن فيما بعد أنّ الخبر غير صحيح وأن القتيل شخص آخر، لكن الأوان كان قد فات، والأمّ ترقد في ركن قصيّ في إحدى الخيام لحد الساعة، تنتظر تحقيق أمنيتها الأخيرة في رؤية زوجها لآخر مرة قبل أن تموت، تقول دائما أنّها لن تموت مطمئنة إلا بعد أن تترك ابنتيها مع والدهما، لكن محدّثتي لا تقاسم أمّها نفس الأمل، لقد تآلفت مع مشاعر اليتم وعشش اليأس من رؤية أبيها في صدرها.
قبل أن نكمل الحديث قاطعنا صوت نسائي هادئ: فاطمة... هيّا!
كانت إحدى رفيقاتها اللواتي رافقنها من أجل شراء الدواء لوالدتها، واقتناء مستلزمات العائلة من السوق الشهير وسط مدينة تندوف.
انصرفت فاطمة وهي تمسح دمعتها بطرف ردائها، وتحاول الابتسام غصبا عن أنف الوجع.
بكبرياء الثائرة ودّعتني بإشارة من يدها واختفت.
1 تعليقات