هذا هو رجل الدولة!
يعدّ إضفاء الألقاب الفخمة على الشخصيات السياسية واحدة من طرق الإقناع النفسي للجماهير لتقبلهم إذا لم يكونوا على قدر كاف من الشهرة ولإعادة تأهيلهم إذا كانوا معروفين عند العامة ولا يحظون بالرضا، أو كانت لديهم سوابق تجعلهم منبوذين لدى قطاعات واسعة من المجتمع بسبب أفعال ارتكبوها في الماضي أو لارتباط أسمائهم بأنظمة أو حكومات مغضوب عليها. ولعلّ لقب "رجل الدولة" هو أكثر الألقاب انتشارا في الدول التي تعيش تحت نير الاستبداد

حتى أحمد أويحي كان يعد رجل دولة!
حيث يصبح هذا الوصف جسرا يعبر عليه المستبدّ الجديد وأعوانه ليدوسوا على رقاب الجماهير بداعي أنّ ذلك الشخص رجل دولة يدرك مصلحتها ويجيد إدارتها أفضل من غيره.
من المثير للانتباه أنّ الدعاية الموجهة تستعمل مفردات لها امتداداتها الفكرية وأصولها النظرية دون أن تأخذها بعين الاعتبار، فوصف المسؤول في إعلامنا بلقب رجل الدولة لا يستند إلى أيّ سند علمي ولا يقف على أرضية نظرية يمكن البناء عليها، علما أنّه ليس الوصف الوحيد الذي يستخدم جافا من دون تأصيل علمي في بيئتنا الجزائرية على وجه الخصوص والمؤسف أنّ هذه الدعاية المبنية على التزييف والارتجال والفهلوة لا تقابل بأي تصويب من المختصين لضبط المصطلحات ووضعها في سياقها الصحيح، ولا يخفى على أحد أنّ الاستسلام لموجة توزيع الألقاب المفخمة والأوصاف العظيمة في المجال العام يضعف الثقافة السياسية للأفراد ويزيد من تيههم في دولة يكاد ينعدم فيها الفعل النضالي والخطاب السياسي بصورة كاملة.
بداية يجب توضيح أنّ المقال لا يعالج مفاهيم القيادة والقائد والسياسي بل يحاول التركيز على مفهوم رجل الدولة وحده لتحريره ووضعه ضمن إطار نظري يمكن استدعاؤه عند الحاجة لوضع الأوصاف والمصطلحات موضعها الصحيح، كي يعلم المواطن أولا وبعده أولئك المتحدثون في السياسة أنّ ليس كل من ارتدى بدلة وربطة عنق، أو تولّى مسؤولية وزارة، أو تدرّج في الرتب العسكرية، أو دخل مجلس النوّاب، أو قادته الصدفة إلى القصر الجمهوري يصحّ أن يطلق عليه لقب رجل الدولة.
لابدّ من دولة وديمقراطية
في محاولة لضبط المفهوم، نشر الأستاذ فابيو براديرا وهو أستاذ في جامعة كارلوس الثالث في إسبانيا مقالا بعنوان "إعادة تعريف رجل الدولة" حاول فيه العودة إلى أصل المصطلح واستعمالاته معتمدا على النموذج الديغولي الذي يراه تجسيدا فعليا للمفهوم انطلاقا من الدراسات والكتب التي درست تاريخ الجنرال الفرنسي وتتبّعت مساره وحلّلت خطاباته مثل كتاب "ديغول: رجل الدولة" لبراين كروزييه والمؤلف الشهير لغيتا إيونيسكو "القيادة في عالم متداخل" حيث فحص مسار عدد من القيادات العالمية بداية من كونراد أديناور الألماني إلى ديغول الفرنسي مرورا بريغن الأمريكي وتاتشر البريطانية وصولا إلى ميخائيل غورباتشوف السوفياتي، وكلّ هؤلاء كانت لهم بصمات عظيمة في تاريخ دولهم والعالم كما هو واضح مما يمنحنا إشارة قوية تفيد بحساسية الوصف وضرورة الحيطة عند إطلاقه على الشخصيات السياسية في عالمنا العربي خاصة، لذلك يقع على عاتق المتحدث والمتلقّي واجب الحذر لأنه سيقارن من سيصفه بوصف رجل الدولة بأسماء ثقيلة في عالم العلاقات الدولية، اللهمّ إلا إذا كان سيؤسس لمنظور جديد يقطع مع الأصول النظرية للمفهوم في بيئته الغربية، ولا يبدو أن ذلك غرضا لمستخدمي المصطلح.
قبل أن يقدم براديرا تعريفا لرجل الدولة يؤكّد على أهمية استيفاء الدولة نفسها لمجموعة من الشروط من بينها السيادة الكاملة وحفاظها على حدودها وثبات تلك الحدود، إذ لا يصح في نظره الحديث عن رجل دولة في دولة غير مكتملة السيادة ولا تحوز على مؤسسات قوية تراعي الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية القضائية. وهنا ينبغي ملاحظة أنّ توازن السلطات عامل أساسي في تعريف الدولة ثم رجالها، أي أنّ غياب الفصل بين السلطات يجعل موضوع وجود رجال للدولة غير مطروح من الأساس، فتأمّل!
ثم ينتقل إلى المفهوم الذي يعنينا فيقول: "رجل الدولة هو ذلك القائد السياسي الذي يحكم انطلاقًا من مصلحة الدولة، بغض النظر عن مصدر شرعيته (وفقًا لمفاهيم ماكس فيبر)، أو انتمائه الأيديولوجي. إلا أن وصوله إلى السلطة يتم دائمًا عبر وسائل ديمقراطية، ويُحسن استثمار التعددية السياسية للدولة من أجل تنفيذ سياسات عامة ملائمة تزيد من المنفعة الاجتماعية الشاملة، ويسترشد في ذلك بحب عميق للدولة وخدمة الصالح العام." بمعنى أنّ الوصول إلى السلطة بوسائل غير ديمقراطية أو التحوّل إلى الدكتاتورية أو التنكّر للديمقراطية التي أوصلته إلى الحكم يتنافى مع مفهوم رجل الدولة، فالديمقراطية شرط رئيس لا مجال للتنازل عنه، وإلا يصبح التوصيف مشاعا يستعمله الصحافيون وكتّاب السير الذاتية لتلميع المستبدين وإضفاء هالة من السموّ والتميّز على الدكتاتوريين والانقلابيين بداعي حرصهم على مصلحة الدولة. فإذا أخذنا شرط الديمقراطية ليكون معيارا للحكم على القادة والسياسيين ستضيق دائرة المعنيين بوصف رجل الدولة في عالمنا العربي كثيرا ولا يكاد يبقى من بينهم أحد ينطبق عليه الوصف.
ويتفق إيونيسكو مع براديرا في تقسيم المراحل التي مر بها مفهوم رجل الدولة إلى مرحلتين، الأولى تمتد بين عامي 1789 و1944، وهي مرحلة تاريخية لا تصلح للعصر الحالي، يمكننا أن نجد أثناءها مجموعة واسعة من القادة السياسيين الذين قد يمتثلون لمعايير تعريف رجل الدولة، لكنهم لم يصلوا إلى السلطة عبر طرق ديمقراطية (مثل نابليون)، مما يعني وجود ضعف في مبدأ فصل السلطات. وفي في حالات أخرى، على الرغم من الوصول الديمقراطي إلى السلطة (مثل هتلر)، فقد تحولت تلك الأنظمة لاحقًا إلى دكتاتوريات، مما أضعف بنية الدولة ومشروعيتها. علاوة على ذلك، بدأ هؤلاء القادة عملية توسعية لحدود دولهم، وهو ما يتنافى مع الشرطين السابقين لمفهوم رجل الدولة: الوصول الديمقراطي إلى السلطة، واستقرار حدود الدولة.
أما المرحلة الثانية التي يراها براديرا عصرا جديدا لمفهوم رجل الدولة فهي التي أتت بعد نهاية الحرب العالمية ولا تزال مستمرة إلى اليوم.
ديغول: رجل الدولة النموذجي
بالنسبة للكاتبين براديرا وإيونيسكو، ليس هناك شخصية سياسية بعد الحرب العالمية الثانية تداني الجنرال ديغول في تمكّنها من استيفاء خصائص رجل الدولة، وقد عبر عن ذلك براديرا بوضوح: " يُعد شارل ديغول النموذج الأمثل لرجل الدولة بامتياز"، ويعود ذلك لمجموعة من الأسباب أهمّها أن الرجل اختار تأسيس حكومة في المنفى وقيادة المقاومة ضد الاحتلال النازي لبلاده، وعلى الرغم من الشرعية والسمعة التي اكتسبها بصفته بطلا قوميا تمكّن من تحرير بلده إلاّ أنّه لم يستغل ذلك لتأسيس نظام دكتاتوري بعد نهاية الحرب، بل أنّه سعى إلى إنشاء مؤسسات بديلة عن المؤسسات التي أقامها فيشي وقال عبارته الشهيرة: "إذا لم تعمل الدولة بشكل جيد، فإن المواطنين لا يحترمون المؤسسات. حينذاك، يمكن لأبسط سبب أن يجلب الديكتاتورية." ولأنه كان يهدف في نهاية المطاف إلى الحفاظ على استمرارية الدولة الفرنسية، فقد دعا ديغول جميع المواطنين الفرنسيين لإعادة بناء فرنسا، ووجّه دعوته لجميع الأحزاب والتيارات السياسية الموجودة آنذاك، بما فيها الشيوعيون العائدون من موسكو إلى المشاركة، ولم يستثن منهم أحدا، في وقت كان في وسعه أن يستغل شخصيته الكاريزمية ومآثره السياسية في بناء النظام الذي يشاء مؤيّدا بجزء واسع من المجتمع ومسنودا بالقيادات العسكرية الموالية له.
إن الميزة الأهم التي جعلت من ديغول مثالا لرجل الدولة حسب الكاتبين هي تقيّده بالديمقراطية وسيلة وحيدة للوصول إلى السلطة، وذلك ما تؤكّده استقالة الجنرال حين رفض الشعب الفرنسي نسخة الدستور الذي اقترحه في 1946. لقد كان بلفظ كروزييه حاكما بتفويض ولم يكن بونابرتياً، لم يكن هدفه الاستيلاء على السلطة بل أن تمنح له بإرادة الشعب وموافقة أغلبيته، وهنا يؤكد إيونيسكو على رأيه بأنّ "هذا الموقف المنفصل، رغم الولاء العميق، هو أحد السمات النفسية الفارقة لرجل الدولة مقارنة بالسياسي المحترف ." وبتلك الطريقة صنع مجده الشخصي وحاز على معايير رجل الدولة الأمثل، وقد كان ابتعاده الطوعي عن السلطة مرّتين في 1946 و1969 مرتكزا أساسيا جعله يتبوّأ تلك المكانة متفوّقا على قيادات سياسية ذائعة الصيت وعظيمة الأثر في عالم السياسة.
إذن، مسألة توزيع الألقاب في السياسة مسألة حساسة جدا ولا تعتمد على الميولات والتفضيلات الشخصية كما هو دارج في حالتنا العربية بل تقتضي توفّر مجموعة من المعايير العلمية غير القابلة للتجاوز، ولا يحقّ لأحد أن يفرض لمجرّد رغبته الشخصية أو مصلحته أو نزوعه الطبيعي للفذلكة صفات كبيرة على محترفي السياسة مهما كان الهدف من وراء ذلك؛ تحقيق غاية مادية أو تزلّف مجاني أو إرضاء لشهوة الإغراب في الحديث. كما يقع على عاتق مؤسسات الدعاية الرسمية واجب التقيّد بالمفردات السياسية طبقا لتعريفاتها الاصطلاحية من دون محاولة تحويرها والتلاعب بها لتسويق أسماء بعينها سياسيا لإجبار المتلقّي على تقبّلها أو بهدف تحضيرها لاستحقاقات مستقبلية.
أما أولئك الذين يمضغون المصطلحات الكبيرة بمناسبة ومن دون مناسبة ويدّعون أنّهم رجال دولة فإن عليهم أن يستوعبوا أوّلا مفهوم رجل الدولة وسيفرّون بعد ذلك منه فرارهم من المجذوم حين يكتشفون أنّهم مجتمعون بأوّلهم وآخرهم لا يوجد من بينهم من يملك صفة واحدة من صفات رجال الدولة.
21 تعليقات
وليد
٢٩ مايو ٢٠٢٥وليد
٢٩ مايو ٢٠٢٥محمود زوبيري
٢٩ مايو ٢٠٢٥محمد طبال
٢٩ مايو ٢٠٢٥Lazhar Ben othman Bennaâdja
٢٩ مايو ٢٠٢٥أحمد سعدي
٢٩ مايو ٢٠٢٥مراد منصوري
٢٩ مايو ٢٠٢٥Arius
٢٩ مايو ٢٠٢٥دكتور موساوي عمر
٢٩ مايو ٢٠٢٥دكتور موساوي عمر
٢٩ مايو ٢٠٢٥رشاد مراغنية
٢٩ مايو ٢٠٢٥رضا
٢٩ مايو ٢٠٢٥مختار دباشي
٢٩ مايو ٢٠٢٥مصطفاوي أميرة
٢٩ مايو ٢٠٢٥Abderrahmen Saadi
٢٩ مايو ٢٠٢٥شكري بورزق
٢٩ مايو ٢٠٢٥نُسيبة
٣٠ مايو ٢٠٢٥لواج طارق
٣٠ مايو ٢٠٢٥مومن عوير
٣٠ مايو ٢٠٢٥بلحضري
٣٠ مايو ٢٠٢٥أمير ساسي.
٣٠ مايو ٢٠٢٥